ســـــيــــرة الإمــــام الــــحــــســــيــــن { ع }
صفحة 1 من اصل 1
ســـــيــــرة الإمــــام الــــحــــســــيــــن { ع }
ولادة الامام الحسين ( عليه السلام )
رؤيا أم الفضل :
رأت أم الفضل بنت الحارث في منامها رؤيا غريبة لم تهتدِ إلى تأويلها ، فهرعت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قائلة له : إني رأيت حلماً مُنكراً ، كأنَّ قطعة من جَسدِك قُطعت وَوُضعت في حِجري ؟!!
فأزاح النبي ( صلى الله عليه وآله ) مخاوفها ، وبشَّرها بخير قائلاً : ( خيراً رأيتِ ، تَلد فاطمةُ إن شاء الله غلاماً فيكون في حِجرك ) .
الوليد المبارك :
وضعت سيدة نساء العالمين ( عليها السلام ) وليدها العظيم الذي لم تَضع مثله سيدة من بنات حوَّاء – لا في عصر النبوة ولا فيما بعده – أعظمُ بركة ولا أكثر عائدة على الإنسانية منه ، فلم يكن أطيب ولا أزكى ولا أنور منه .
وتردَّد في آفاق المدينة المنورة صدى هذا النبأ المفرح ، فهرعت أمَّهات المؤمنين وسائر السيدات من نساء المسلمين إلى دار سيدة النساء فاطمة ( عليها السلام ) وَهُنَّ يُهَنِّئْنَها بمولودِها الجديد .
وُجوم النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبكاؤه :
ولمَّا بُشِّر الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) بسبطه المبارك ، خف مسرعاً إلى بيت بضعته فاطمة ( عليها السلام ) وهو ثقيل الخطوات ، وقد ساد عليه الوجوم والحزن ، فنادى بصوت خافت حزين النبرات : ( يَا أسماء ، هَلُمِّي ابنِي ) .
فَناولَتْهُ أسماء ، فاحتضنه النبي ( صلى الله عليه وآله ) وجعل يُوسعه تَقبيلاً وقد انفجر بالبكاء .
فَذُهِلت أسماء وانبرت تقول : فِداك أبي وأمي ، ممّ بكاؤك ؟!
فأجابها النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقد غامت عيناه بالدموع : ( مِن ابنِي هَذا ) .
وملكت الحيرة إهابها ، فلم تدرك معنى هذه الظاهرة ومغزاها ، فقالت : إنه وُلد الساعة !!.
فأجابها الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بصوت متقطع النبرات حزناً وأسىً قائلاً : ( تَقتُلُه الفِئةُ البَاغية من بعدي ، لا أنَالَهُمُ اللهُ شفاعَتي ) .
ثم نهض وهو مُثـقل بِالهَم ، وأَسَرَّ إلى أسماء قائلاً : ( لا تُخبري فاطمة ، فإنها حديثة عهد بولادته ) .
وكانت ولادته ( عليه السلام ) في الثالث من شهر شعبان من السنة الثالثة أو الرابعة للهجرة النبوية الشريفة .
مراسيم ولادته :
وأجرى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بنفسه أكثر المراسيم الشرعية لوليده المبارك ، فقام ( صلى الله عليه وآله ) بما يلي :
1 - الأذان والإقامة : فأذّن ( صلى الله عليه وآله ) في أذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى .
وجاء في الخبر : أن ذلكَ عِصمةٌ للمولود من الشيطان الرجيم .
2 - التسمية : فَسمَّاه النبي ( صلى الله عليه وآله ) ( حُسَيْناً ) كما سَمَّى أخاه ( حَسَناً ) .
ويقول المؤرخون لم تكن العرب في جاهليتها تعرف هذين الاسمين حتى تُسَمِّي أبناءهم بهما ، وإنما سَمَّاها النبي ( صلى الله عليه وآله ) بهما بوحي من السماء .
3 - العَقيقة : وبعدما انطوت سبعة أيام من ولادة الحسين ( عليه السلام ) أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يُعَقَّ عنه بِكَبْش ، ويُوزَّع لحمه على الفقراء .
كما أمر ( صلى الله عليه وآله ) أن تُعطى القابلة فخذاً منها ، وكان ذلك من جملة ما شرعه الإسلام في ميادين البِرِّ والإحسان إلى الفقراء .
4 - حَلْق رأسه : وأمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يُحلَقَ رأس وليده ، ويُتَصَدَّق بِزِنَتِهِ فضة على الفقراء – وكان وزنه كما في الحديث درهماً ونصفاً – ، وطلى رأسه بِالخَلُوق ، ونهى عمّا كان يفعله أهل الجاهلية من طلاء رأس الوليد بالدم .
5 - الخِتَان : وأَوْعزَ النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى أهل بيته بإجراء الخِتَان على وليده في اليوم السابع من ولادته ، وقد حثّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) على خِتَان الطفل في هذا الوقت المبكر لأنه أطيبُ له وأطهر .
مـــــــع الـــــــتـــــــحــــــــيـــــــات
رد: ســـــيــــرة الإمــــام الــــحــــســــيــــن { ع }
علم الإمام الحسين ( عليه السلام )
عن أبي سلمة قال : حَجَجْتُ مع عمر بن الخطاب ، فلمَّا صرنا بالأبطح فإذا بأعرابي قد أقبل علينا فقال : يا أمير المؤمنين ، إني خرجت وأنا حاجٌّ مُحْرِمْ ، فأصبت بيض النعَّام ، فاجتنيتُ وشويتُ وأكلتُ ، فما يجب عليّ ؟
قال عُمَر : ما يحضرني في ذلك شيء ، فاجلسْ لعلَّ الله يفرِّج عنك ببعض أصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله ) .
فإذا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قد أقبل ، والحسين ( عليه السلام ) يتلوه .
فقال عمر : يا أعرابي هذا علي بن أبي طالب فدونك ومسألتك .
فقام الأعرابي وسأله ، فقال علي ( عليه السلام ) : ( يا أعرابي سلْ هذا الغلام عندك ) ، يعني الحسين ( عليه السلام ) .
فقال الأعرابي : إنما يحيلني كل واحد منكم على الآخر .
فأشار الناس إليه : ويحك هذا ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فاسأله .
فقال الأعرابي : يابن رسول الله إني خرجت من بيتي حاجّاً – وقصَّ عليه القصة فقال له الحسين ( عليه السلام ) : ( أَلَكَ إِبْلٌ ) ؟
قال الأعرابي : نعم .
قال ( عليه السلام ) : ( خُذ بعدد البيض الذي أَصَبتَ نوقاً فاضربها بالفحولة ، فما فصلت فاهدها إلى بيت الله الحرام ) .
فقال عمر : يا حسين النوق يزلقن .
فقال الحسين : ( إنّ البيض يمرقن ) .
قال عمر : صدقت وبررت .
فقام علي ( عليه السلام ) وضمَّ الحسين ( عليه السلام ) إلى صدره وقال : ( ذرِّيَّة بعضها من بعض والله سميع عليم ) .
مـــــــع الـــــــتـــــــحــــــــيـــــــات
رد: ســـــيــــرة الإمــــام الــــحــــســــيــــن { ع }
فصاحة الإمام الحسين ( عليه السلام ) وبلاغته
تربى الإمام الحسين ( عليه السلام ) بين أحضان جدّه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، الذي كان أفصح مَنْ نطق بالضاد ، ثم انتقل إلى حضن أبيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، الذي كان كلامه بعد كلام النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ودون كلام الخالق ، ناهيك عن كلام أُمّه الزهراء ( عليها السلام ) ، التي تفرغ عن لسان أبيها ، فلا غرو أن نجد الحسين ( عليه السلام ) أفصح الفصحاء وأبلغ البلغاء .
وقد تجلى ذلك في واقعة عاشوراء ، عندما اشتد الخطب وعظم البلاء وضاق الأمر ، فلم يتزعزع ولم يضطرب ، وخطب بجموع أهل الكوفة ، بقلب ثابت ولسان طليق ينحدر منه الكلام كالسيل ، فلم يسمع متكلم قط قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه ، حتى قال فيه عدوّه : ويلكم كلّموه فإنه ابن أبيه ، والله لو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً لما انقطع ولما حصر .
مـــــــع الـــــــتـــــــحــــــــيـــــــات
رد: ســـــيــــرة الإمــــام الــــحــــســــيــــن { ع }
حكم الإمام الحسين ( عليه السلام ) ومواعظه
مَنح اللهُ الإمامَ الحسين ( عليه السلام ) أعِنَّة الحِكمة ، وَفَصل الخِطاب ، فكانت تَتَدفَّق على لسانه ( عليه السلام ) سُيول من الموعظة والآداب والأمثال السائرة ، وفيما يلي بعض حِكَمِهِ القصار :
1ـ قال ( عليه السلام ) : ( العاقلُ لا يُحدِّث من يُخافُ تَكذيبُه ، ولا يَسألُ مَن يُخافُ مَنعُه ، ولا يَثِقُ بِمن يُخافُ غَدرُه ، وَلا يَرجو مَن لا يُوثَقُ بِرجَائِه ) .
2ـ قال ( عليه السلام ) : ( أَيْ بُنَي ، إِيَّاكَ وَظُلم مَن لا يَجِدُ عَليك ناصراً إلاّ الله عَزَّ وَجلَّ ) .
3ـ قال ( عليه السلام ) : ( مَا أخذَ اللهُ طَاقَة أَحَدٍ إِلاّ وَضع عَنه طَاعَته ، ولا أخَذَ قُدرتَه إِلاَّ وَضَعَ عنه كُلفَتَه ) .
4ـ قال ( عليه السلام ) : ( إِيَّاك وما تَعتَذِرُ مِنه ، فإِنَّ المُؤمنَ لا يُسيءُ ولا يَعتَذِر ، وَالمُنَافق كُل يوم يُسيءُ وَيعتذر ) .
5ـ قال ( عليه السلام ) : ( دَعْ مَا يُريبُكَ إلى مَا لا يُريبك ، فإنَّ الكذبَ رِيبَةٌ ، وَالصدقُ طُمَأنينَة ) .
6ـ قال ( عليه السلام ) : ( اللَّهُمَّ لا تَستَدرِجنِي بالإحسان ، ولا تُؤَدِّبني بِالبَلاء ) .
7ـ قال ( عليه السلام ) : ( خَمسٌ مَن لَم تَكُن فِيه لَم يَكُن فِيه كثير : مُستمتع العقل ، والدِين ، والأَدَب ، والحَيَاء ، وَحُسنُ الخُلق ) .
8ـ قال ( عليه السلام ) : ( البَخيلُ مَن بَخلَ بالسَلام ) .
9ـ قال ( عليه السلام ) : ( مَن حَاولَ أمراً بمعصيةِ اللهِ كَان أفوَت لِما يَرجُو ، وَأسرَع لِما يَحذَر ) .
10ـ قال ( عليه السلام ) : ( مِن دَلائِل عَلامات القَبول الجُلوس إلى أهلِ العقول ، ومِن علامات أسبابِ الجَهل المُمَارَاة لِغَير أهلِ الكفر ، وَمِن دَلائل العَالِم انتقَادُه لِحَديثِه ، وَعِلمه بِحقَائق فُنون النظَر ) .
11ـ قال ( عليه السلام ) : ( إِنَّ المؤمنَ اتَّخَذ اللهَ عِصمَتَه ، وقَولَه مِرآتَه ، فَمَرَّةً ينظر في نَعتِ المؤمنين ، وتَارةً ينظرُ في وصف المُتَجبِّرين ، فَهو منهُ فِي لَطائِف ، ومن نَفسِه في تَعارُف ، وَمِن فِطنَتِه في يقين ، وَمن قُدسِه عَلى تَمكِين ) .
12ـ قال ( عليه السلام ) : ( إِذا سَمعتَ أحداً يَتَناولُ أعراضَ الناسِ فاجتَهِد أنْ لا يَعرِفك ) .
13ـ قال ( عليه السلام ) : ( يَا هَذا ، كُفَّ عَن الغِيبة ، فَإنَّها إِدَامَ كِلاب النار ) .
14ـ تكلّم رجل عنده ( عليه السلام ) فقال : إنّ المعروف إذا أُسدِي إلى غير أهله ضَاع .
فقال ( عليه السلام ) : ( لَيسَ كَذلك ، وَلَن تَكون الصنيعَة مِثل وَابِر المَطَر تُصيبُ البرَّ والفَاجِر ) .
15ـ سأله رجل عن تفسير قوله تعالى : ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) الضحى : 11 .
فقال ( عليه السلام ) : ( أَمَرَهُ أنْ يُحدِّث بِمَا أنْعَم اللهُ بِهِ عَلَيهِ فِي دِينِه ) .
16ـ قال ( عليه السلام ) : ( موتٌ في عِزٍّ خَيرٌ مِن حَياةٍ في ذُلٍّ ) .
17ـ قال ( عليه السلام ) : ( البُكَاءُ مِن خَشيةِ اللهِ نَجاةٌ مِن النار ) .
18ـ قال ( عليه السلام ) : ( مَن أحجَم عَن الرأي وَأعيَتْ لَهُ الحِيَل كَانَ الرفقُ مِفتَاحُه ) .
19ـ قال ( عليه السلام ) : ( مَن قَبلَ عَطاءَك فَقَد أعَانَكَ عَلى الكَرَم ) .
20ـ قال ( عليه السلام ) : ( إِذا كانَ يَوم القيامةِ نَادَى مُنادٍ : أيُّهَا الناس مَن كَانَ لَهُ عَلى اللهِ أجرٌ فَليَقُم ، فَلا يَقُومُ إِلاَّ أهلُ المَعرُوف ) .
21ـ قال ( عليه السلام ) : ( يا هذا لا تجاهد في الرزق جهاد المغالب ، ولا تتكل على القدر اتكال مستسلم ، فإنّ ابتغاء الرزق من السنّة ، والإجمال في الطلب من العفّة ، ليست العفّة بممانعة رزقاً ، ولا الحرص بجالب فضلاً ، وإنّ الرزق مقسوم ، والأجل محتوم ، واستعمال الحرص طلب المأثم ) .
22ـ قال ( عليه السلام ) : ( شر خصال الملوك : الجبن من الأعداء ، والقسوة على الضعفاء ، والبخل عند الإعطاء ) .
23ـ قال ( عليه السلام ) : ( من سرّه أن ينسأ في أجله ، ويزاد في رزقه فليصل رحمه ) .
24ـ قال ( عليه السلام ) : ( إنّ حوائج الناس إليكم من نعم الله عليكم ، فلا تملّوا النعم فتعود نقماً ) .
25ـ قال ( عليه السلام ) : ( الاستدراج من الله سبحانه لعبده ان يسبغ عليه النعم ويسلبه الشكر ) .
26ـ قال ( عليه السلام ) : ( إنّ الحلم زينة ، والوفاء مروّة ، والصلة نعمة ، والاستكبار صلف ، والعجلة سفه ، والسفه ضعف ، والغلو ورطة ، ومجالسة أهل الدناءة شر ، ومجالسة أهل الفسق ريبة ) .
مـــــــع الـــــــتـــــــحــــــــيـــــــات
رد: ســـــيــــرة الإمــــام الــــحــــســــيــــن { ع }
سبب هجرة الإمام الحسين ( عليه السلام ) للعراق
رغم أنَّ الدافع الظاهري لهجرة الإمام ( عليه السلام ) إلى العراق كانت رسائل أهل الكوفة ورُسلهم ، حتى أنَّ الإمام ( عليه السلام ) احتجَّ بها عندما واجه الحُرُّ بن يزيد الرياحي وعمر بن سعد ، عندما سألاه عن سِرِّ مجيئه إلى العراق فقال ( عليه السلام ) : ( كَتَبَ إليَّ أهلُ مِصرِكُم هَذا أنْ أقْدِمَ ) .
إلاَّ أنَّ السرَّ الحقيقي لهجرته ( عليه السلام ) رغم إدراكه الواضح لما سيترتب عليها من نتائج خطرة ستودي بحياته الشريفة ، وهو ما وطَّن نفسه ( عليه السلام ) عليه .
ويمكن إدراكه من خلال الاستقراء الشامل لمسيرة حياته ( عليه السلام ) ، وكيفيَّة تعامله مع مُجرَيات الأحداث .
إذ أنَّ الأمر الذي لا مَناصَ من الذهاب إليه هو إدراك الإمام ( عليه السلام ) ما يشكِّله الإذعان والتسليم لتولِّي يزيد بن معاوية خلافة المسلمين ، رغم ما عُرِف عنه من تَهتُّك ، ومجون ، وانحراف واضح عن أبسط المعايير الإسلامية .
وفي هذا مؤشِّر خطر عن عِظم الانحراف الذي أصاب مفهوم الخلافة الإسلاميَّة ، وابتعادها الرهيب عن مضمونها الشرعي .
ومن هنا فكان لابُدَّ من وقفة شجاعة تعيد للأمَّة جانباً من وعيها المُضاع ، وإرادتها المسلوبة ، حيث أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) قد أعلنها صَراحة لمَّا طالبه مروان بن الحكم بالبيعة ليزيد ، فقال ( عليه السلام ) : ( فَعَلى الإسلامُ السَّلام إذا بُلِيَت الأمَّة بِراعٍ مِثل يَزيد ) .
نعم ، إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( صِنْفانِ مِن أمَّتي إذا صَلُحا صَلُحَتْ أمَّتي ، وإذا فَسدا فَسَدَتْ أمَّتي ) .
قيل : يا رسول الله ومن هما ؟
فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ( الفُقهَاء والأُمَراء ) .
فإذا كان صَلاحُ الأمَّة وفسادها رَهْن صَلاح الخلافة وفسادها ، فقيادَة مثل يزيد لا تزيد الأمر إلا عَبَثاً وفساداً .
فإنَّ القيادة الإسلامية تتحقَّق بالتنصيص أو بالشورى ، ويزيد لَمْ يملك السلطة لا بتنصيصٍ من الله سبحانه ، ولا بشورىً من الأمَّة .
وهذا ما أدركه المسلمون آنذاك ، حيث كتبوا إلى الإمام الحسين ( عليه السلام ) رسالة جاء فيها : أمَّا بعد ، فالحمد لله الذي قصم عدوَّك الجبار العنيد ، الذي انتزى على هذه الأمَّة ، فابتزَّها أمرَها ، وغصبها فَيئَها ، وتأمَّر عليها بغير رضىً منها ، ثم قتل خِيارَها ، واستبقى شِرارَها .
ولم يكن الولد – يزيد - فريداً في غَصب حق الأمَّة ، بل سبقه والده مُعاوِية إلى ما هو معروف وليس بخافٍ على أحد .
وإلى تلك الحقيقة المَمْجوجة يشير الإمام علي ( عليه السلام ) في كتاب له إلى معاوية ، حيث يقول : ( فَقدْ آنَ لَكَ أن تَنتَفع باللَّمح البَاصِر من عيان الأمور ، فَقَد سَلكْتَ مَدارج أسلافِك بادِّعائك الأباطيل ، واقتِحَامك غرور المَيْن والأكاذيب .
وبانتحالك ما قَدْ علا عَنْك ، وابتزازِكَ لما قد اختزن دونك ، فراراً من الحقّ وجُحوداً ، لِمَا هو ألزم لك من لَحمِك ودمك ، مِمَّا قد وعاه سمعك ، وملئ به صدرك ، فماذا بعدَ الحقِّ إلا الضَّلال المُبين ) .
هذا ونظائره المذكورة في التاريخ دفع الحسين إلى الثورة ، وتقديم نفسه وأهل بيته قرابين طاهرة ، من أجل نُصرة هذا الدين العظيم .
مع عِلمه بأنَّه - وِفقاً لِما لديه من الإمكانات المادية - لنْ يستطيعَ أن يواجه دولة كبيرة تمتلك القدرات المادِّيَّة الضخمة ، التي تُمكِّنها من القضاء على أي ثورة فتيَّة .
نعم ، فإن الإمام الحسين ( عليه السلام ) كان يدرك قَطعاً هذه الحقيقة ، إلاَّ أنه أراد أن يسقي بدمائه الطاهرة المقدَّسة شجرة الإسلام الوارفة ، التي يريد الأمويُّون اقتلاعها من جذورها .
كما أن الإمام ( عليه السلام ) أراد أن يكسر حاجز الخوف الذي أصاب الأمَّة ، فجعلَها حائرة متردِّدة ، أمام طُغيان الجبابرة وحُكَّام الجور .
وأن تصبح ثورتُه ( عليه السلام ) مدرسة تتعلَّم منها الأجيال معنى البطولة والتضحية من أجل المبادئ والعقائد ، وكان كل ذلك بعد استشهاد الإمام ( عليه السلام ) ، والتاريخ خير شاهد على ذلك .
وكان المعروف منذ ولادة الإمام الحسين ( عليه السلام ) أنه سيستشهدُ في العراق ، في أرض كربلاء ، وعَرَف المسلمون ذلك في عصر النبي ( صلى الله عليه وآله ) ووصيِّه الإمام علي ( عليه السلام ) ، ولذا فقد كان النَّاس يترقَّبون حدوث تلك الفاجعة .
كما أنَّ هناك الكثير من القرائن التي تدلُّ بوضوح على حتميَّة استشهاده ( عليه السلام ) .
ونذكر من تلك القرائن ما يلي :
الأولى : روى غير واحد من المحدِّثين عن أنس بن الحارث ، الذي استشهد في كربلاء ، أنه قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : ( إنَّ ابني هذا يُقتَلُ بأرضٍ يقال لها ( كربلاء ) ، فمن شَهِد ذلك مِنكُم فَلْينْصُره ) .
فخرج أنَسَ بن الحارث ، فَقُتِل بها مع الحسين ( عليه السلام ) .
الثانية : إنَّ أهل الخبرة والسياسة في عصر الإمام كانوا متَّفقين على أن الخروج إلى العراق يشكِّل خطراً كبيراً على حياة الإمام ( عليه السلام ) وأهل بيته ، ولأجل ذلك أخلَصوا له النصيحة ، وأصرُّوا عليه بعدم الخروج .
ويتمثَّل ذلك في كلام أخيه محمَّد بن الحنفية ، وابن عَمِّه ابن عباس ، ونساء بني عبد المطلب ، ومع ذلك اعتذر لهم الإمام ( عليه السلام ) ، وأفصح عن عَزمه على الخروج .
الثالثة : لما بلغ عبد الله بن عمر ما عزم عليه الحسين ( عليه السلام ) دخل عليه ولامَهُ في المسير ، ولمَّا رآه مُصرّاً عليه قبَّل ما بين عينيه وبكى ، وقال : أستودِعُكَ الله مِن قَتيل .
الرابعة : لمَّا خرج الإمام الحسين ( عليه السلام ) من مَكَّة لِقِيَه الفرزدق الشاعر ، فقال له : إلى أين يا ابن رسول الله ؟ ، ما أعجَلَك عن الموسم ؟
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( لَو لَمْ أعجلْ لأخذت ) .
ثم قال ( عليه السلام ) له : ( أخبِرْني عنِ النَّاس خَلفَك ) .
فقال : الخبيرُ سألت ، قلوبُ النَّاس معك ، وأسيافُهُم عَليك .
الخامسة : لمَّا أتى إلى الحسين خَبَر قتل مُسلم بن عقيل ، وهانئ بن عروة ، وعبد الله بن يقطر ، قال ( عليه السلام ) لأصحابه : ( لَقَدْ خَذَلَنَا شِيعتُنَا ، فمَنْ أحبَّ منكم الانصراف فَلْينصَرِف ، ليس معه ذمام ) .
فتفرَّق الناس عنه ، وأخذوا يميناً وشمالاً ، حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة ، ونفرٌ يسير مِمَّن انضمُّوا إليه ، ومع ذلكَ فقد واصل ( عليه السلام ) مَسيرُه نحو الكوفة .
ولمَّا مَرَّ ( عليه السلام ) بِبَطْن العقبة لِقيَهُ شيخ من بني عكرمة ، يُقال له : عُمَر بن لوذان .
فسأل الإمامَ ( عليه السلام ) : أين تريد ؟
فقال له الإمام ( عليه السلام ) : ( الكُوفَة ) .
فقال الشيخ : أنشدُكَ الله لمَّا انصرفت ، فوالله ما تقدم إلا عَلَى الأسِنَّة وحَدِّ السيوف .
فقال له الإمام ( عليه السلام ) : ( لَيس يخفَى عليَّ الرأي ، وإنَّ اللهَ تعالى لا يُغلَبُ عَلى أمرِه ) .
وفي نفس النص دلالة على أن الإمام ( عليه السلام ) كان يدرك ما كان يتخوَّفُه غيره ، وأنَّ مصيره لو سار إلى الكوفة هو القتل ، ومع ذلك أكمل ( عليه السلام ) السير ، طلباً للشهادة ، من أجلِ نُصرة الدين ، وردَّ كَيد أعدائه ، وحتى لا تَبقى لأحدٍ حُجَّة يتذرَّع بها لِتبريرِ تَخَاذُله وضعفه .
وقد كان لشهادة الإمام الحسين ( عليه السلام ) أثر كَبير في إيقاظ شعور الأمَّة ، وتشجيعها على الثورة ضِدَّ الحكومة الأمويَّة ، التي أصبحَتْ رمزاً للفساد والانحراف عن الدين .
ولأجل ذلك توالت الثورات بعد شهادته ( عليه السلام ) من قِبَل المسلمين في العراق والحجاز .
وهذه الانتفاضات وإن لم تحقِّق هَدفها في وقتها ، ولكنْ كان لها الدور الأساسي في سُقوط الحكومة الأمويَّة بعد مدَّة من الزمن .
ولقد أجاد من قال : لولا نهضة الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه ( رضوان الله عليهم ) يوم الطفِّ لَمَا قامَ للإسلام عَمود ، ولا اخضرَّ له عود ، ولأماته مُعاوية وأتباعه ، ولَدفَنوه في أول عهده في لحده .
فالمسلمون جميعاً بل الإسلام من ساعة ثورته ( عليه السلام ) إلى قيام الساعة ، رَهين شُكرٍ للإمام ( عليه السلام ) وأصحابه ( رضوان الله عليهم ) .
بلى ، فلا مُغالاة في قول من قال : إنَّ الإسلامَ مُحمَّديُّ الوجود ، حُسينيُّ البقاءِ والخلودِ .
مـــــــع الـــــــتـــــــحــــــــيـــــــات
رد: ســـــيــــرة الإمــــام الــــحــــســــيــــن { ع }
موقف الإمام الحسين ( عليه السلام ) من معاوية بن أبي سفيان
للإمام الحسين ( عليه السلام ) في موقفه من معاوية صُورتان تَكامُليّتان ، وكلتاهما تحكيان مبدأيّته العصماء في لحاظ مصلحة الإسلام العليا :
الصورة الأولى :
التزامه ( عليه السلام ) بعهد أخيه الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، ووفاؤه ببنود صلح أخيه المبرم مع معاوية بن أبي سفيان ، لاعتقاده ( عليه السلام ) بأن المصلحة الإسلامية لا زالت في ذلك .
ولأن مبادئ الإسلام وأحكامه تأبى عليه نقض العهود والتحلل من الوفاء بالعقود ، إلا إذا أُخلّ بشروطه أو انتهَت مُدّته ، وذلك لقول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ ) المائدة : 1 .
فلما استشهد الإمام الحسن ( عليه السلام ) تحرَّكت الشيعة بالعراق ، وكتبوا إلى الإمام الحسين ( عليه السلام ) في خلع معاوية والبيعة له ، فامتنع عليهم وذكر أن بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لا يجوز له نقضه حتى تمضي المدة ، فإن مات معاوية نظر في ذلك .
الصورة الثانية :
وفيها سلك الإمام الحسين ( عليه السلام ) مسلكاً تكامليّاً في مقابل التزامه بما تُملِيه عليه الحكمة الإلهية ، والمصلحة الإسلامية ، للصلح الذي عقده الإمام الحسن ( عليه السلام ) مع معاوية .
والتي من أبرزها كشف حقيقة حكومة بني أمية للمسلمين ، فانطلق الإمام ( عليه السلام ) من نفس هذه الحكمة الإلهية والمصلحة الإسلامية ، وعمل جهده لكشف هذه الحقيقة .
وهنا يتبيَّن لنا السر في عدم التخالف بين موقفه في الصورة الأولى وموقفه في هذه الصورة الثانية .
فهما صورتان لموقف تكاملي هادف ، يحفظ في الأولى حدود الصلح المُعلَنَة ، ويسعى في الثانية لتكميل تحقيق الأهداف المنشودة لهذا الصلح .
وذلك عن طريق إظهار الحق وإعلانه في وجه معاوية بن أبي سفيان ، والتصدِّي له بالحُجَّة البالغة ، وتَعرِية انحرافه عن كتاب الله وسُنَّة نبيه ( صلى الله عليه وآله ) ، ودرء البدع التي أحدثها في الدين ، واستنكار الظلم والجور الذي أوقعه على صفوة الأصحاب والتابعين من شيعة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وسفك دمائهم الطاهرة خلافاً لبنود الصلح المبرم مع الإمام الحسن ( عليه السلام ) .
ومن هذه المواقف نذكر ما يلي :
الموقف الأول :
تصدِّيه ( عليه السلام ) لأمر معاوية وَوُلاَتِه وعُمَّاله بلعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على المنابر واضطهاد شيعته ، وكذلك قتل من يروي شيئاً من فضائله ( عليه السلام ) .
فعن سليم بن قيس قال : نادى منادي معاوية أن قد برئت الذمَّة ممن يروي حديثاً من مناقب علي ( عليه السلام ) وفضل أهل بيته ( عليهم السلام ) .
وكان أشدّ الناس بليَّة أهل الكوفة ، لكثرة من بها من الشيعة ، فاستعمل زياد بن أبيه ، وضمَّ إليه العراقيين الكوفة والبصرة ، فجعل يتتبَّع الشيعة وهو بهم عارف .
فكان يقتلهم تحت كل حجر ومدر ، فأخافهم وقطع الأيدي والأرجل ، وصلبهم في جذوع النخل ، وسمل أعينهم ، وطردهم وشرَّدهم حتى نُفوا عن العراق .
فلم يبقَ بها أحد معروف مشهور ، فهم بين مقتول أو مصلوب أو محبوس ، أو طريد أو شريد .
وكتب معاوية إلى جميع عُمَّاله في جميع الأمصار أن : لا تجيزوا لأحد من شيعة عليٍّ وأهل بيته شهادة ، وانظروا قبلكم من شيعة عثمان ومحبِّيه ، ومحبِّي أهل بيته وأهل ولايته ، والذين يروون فضله ومناقبه ، فادنُوا مجالسهم ، وقرّبوهم وأكرِموهم ، واكتبوا بمن يروي من مناقبه واسم أبيه وقبيلته .
ففعلوا حتى كثرت الرواية في عثمان ، وافتعلوها لما كان يبعث إليهم من الصلات والخِلَع والقطائع من العرب والموالي .
فكثر ذلك في كل مِصر ، وتنافسوا في الأموال والدنيا ، فليس أحد يجيء من مصر من الأمصار فيروي في عثمان منقبة أو فضيلة إلا كُتب اسمه وأُجيز ، فلبثوا بذلك ما شاء الله .
ثم كتب إلى عُمَّاله أنَّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر ، فادعوا الناس إلى الرواية في معاوية وفضله وسوابقه ، فإن ذلك أحبُّ إلينا وأقرُّ لأعيُنِنا ، وأدحضُ لحُجَّة أهل البيت وأشَدُّ عليهم .
وكان أشدُّ الناس في ذلك القُرَّاء المراؤون ، والمُتَصنِّعون ، الذين يُظهرون الخشوع والورع ، فكذبوا وانتحلوا الأحاديث وَوَلَّدوها .
فحظوا بذلك عند الوُلاة والقُضَاة وأُدنُوا مجالسهم ، وأصابوا الأموال والقطائع والمنازل ، حتى صارت أحاديثهم ورواياتهم عندهم حقّاً وصدقاً ، فَرَوَوْهَا وقَبلُوها وتعلَّموها وعلّموها ، وأحبّوا عليها وأبغضوا مَنْ ردّها أو شَكَّ فيها .
إذن ، فلما استشهد الإمام الحسن ( عليه السلام ) ازداد البلاء وَكَثُرَت الفتنة ، فلم يبقَ لله ولي إلا هو خائف على نفسه ، أو مقتول ، أو طريد شريد .
فلما كان قبل موت معاوية بسنتين ، حجَّ الإمام الحسين ( عليه السلام ) وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عباس معه .
وقد جمع الإمام الحسين ( عليه السلام ) بني هاشم ، وشيعته ، من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والتابعين ، بمنىً وهم أكثر من ألف رجلا ، فقام فيهم خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال ( عليه السلام ) : ( أمَّا بَعد ، فإن الطاغية قد صَنعَ بنا وبشيعتِنا ما قد عَلِمتُم ورأيتم وشَهِدتُم وَبَلَغَكُم ، وإنِّي أريدُ أن أسألَكُم عن أشياء ، فإن صَدَقتُ فَصدّقُونِي ، وإن كَذبتُ فَكَذِّبُوني .
إسمعوا مَقَالَتِي ، واكتُمُوا قولي ، ثم ارجِعُوا إلى أَمصَارِكُم وقبائلكم ، مَن أَمِنتُمُوهُ وَوَثِقتُم به فادعوهُم إلى ما تَعلَمُون ، فإني أخافُ أن يَندَرِسَ هذا الحق ويذهب ، ( والله مُتِمُّ نورِهِ وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ ) ) الصف : 8 .
فما ترك الإمام الحسين ( عليه السلام ) شيئاً أنزله الله فيهم أهل البيت ( عليهم السلام ) من القرآن إلا قاله وفَسَّره ، ولا شيئاً قاله الرسول ( صلى الله عليه وآله ) في أبيه وأمِّه وأهل بيته ( عليهم السلام ) إلا رواه .
وفي كل ذلك يقول الصحابة : اللَّهُمَّ نَعَم ، قد سمعناه وشهدناه ، ويقول التابعون : اللهم قد حدّثَنَا مَن نُصدقه ونأتَمنُه ، حتى لم يترك شيئاً إلا قاله .
ثم قال ( عليه السلام ) : ( أُنشِدُكُم بِاللهِ إلاَّ رَجِعتُم وَحَدّثتُم بِهِ مَن تَثِقُونَ به ) .
ثم نزل ( عليه السلام ) وتفرَّق الناس على ذلك .
الموقف الثاني :
استنكاره ( عليه السلام ) على معاوية قَتلَهُ لِصَفوَةِ من صحابة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتابعيهم من شيعة أهل البيت ( عليهم السلام ) .
فكتب الإمام الحسين ( عليه السلام ) إلى معاوية : ( … أَلَستَ قاتلَ حِجرَ بن عَدي أخي كندة ، وأصحابه الصَّالِحِين المُطِيعِين العَابِدين ؟!! ، كانوا ينكرون الظلم ، ويَستعظِمُون المُنكَر والبدع ، وَيُؤثِرُون حُكمَ الكِتاب ، ولا يخافون في الله لَومَةَ لاَئمٍ .
فقتلتَهُم ظلماً وعدواناً ، بعد ما كُنتَ أعطيتَهُم الأَيمان المغلَّظَة والمواثيقِ المُؤَكَّدة ، لا تأخذهم بِحَدَثٍ كان بينك وبينهم ، ولا بإحنة تَجِدَها في صدرك عليهم .
أَوَلَستَ قاتل عمرو بن الحمق صاحب رَسُولِ اللهِ ؟!! ، العبدِ الصالح الذي أبلَتْهُ العبادة فَصَفَّرتَ لَونَهُ وَنَحَّلتَ جِسمَهُ بعد أن أَمَّنتَهُ وأعطيتَهُ من عهود الله عزَّ وجلَّ وميثاقه ما لو أعطيتَهُ العُصم فَفَهِمتْهُ لَنَزَلَتْ إِليكَ مِن شغفِ الجِبَال ، ثم قتلتهُ جُرأَةً على الله عزَّ وجلَّ واستخفافاً بذلك العهد …
أَبشِرْ يا معاوية بِقِصَاصٍ ، واستَعِدْ للحساب ، واعلَمْ أنَّ للهَ عزَّ وجلَّ كتاباً لا يُغَادِرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلاَّ أحصاها ، وليسَ اللهُ تبارك وتعالى بِنَاسٍ أخذَكَ بالظِّنة ، وَقَتلَكَ أولياءه بالتُّهمة ، وَنَفْيَكَ إيَّاهم من دار الهجرة إلى الغُربَة والوَحشَة …
لا أَعْلَمُكَ إلاَّ قَد خَمَّرتَ نفسَك ، وَشَريتَ دينَكَ ، وغَشَشْتَ رعيّتك ، وأخزَيتَ أمانَتَك ، وَسَمِعتَ مقالةَ السَّفِيهِ الجاهلِ ، وأَخفْتَ التقيَّ الوَرِعَ الحَلِيم ) .
الموقف الثالث :
إظهاره ( عليه السلام ) وإعلانه لفضائل أهل البيت ( عليهم السلام ) وحقهم في ولاية المسلمين .
فعن موسى بن عقبة أنه قال : لقد قيل لمعاوية : إنَّ الناس قد رَمَوا أبصارَهم إلى الحسين ، فلو قد أمرته يصعد المنبر ويخطب ، فإن فيه حصراً أو في لسانه كلالة .
فقال لهم معاوية : قد ظننَّا ذلك بالحسن ، فلم يزل حتى عَظُمَ في أعين الناس وفَضَحَنا .
فلم يزالوا به حتى قال للحسين ( عليه السلام ) : يا أبا عبد الله ، لو صعدت المنبر فخطبت .
فصعد الإمام الحسين ( عليه السلام ) المنبر ، فَحَمِدَ الله وأثنى عليه وصلى على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فسمع رجلاً يقول : من هذا الذي يخطب ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( نحن حزب الله الغالبون ، وعترة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الأَقربُون ، وأهل بَيتِه الطيِّبُون ، وأَحَدُ الثَّقلين الذين جَعَلَنا رسولُ الله ( صلى الله عليه وآله ) ثاني كتاب الله تبارك وتعالى ، الذي فيه تَفصيلُ كُلِّ شيء ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خَلفِه ، والمُعوَّلُ علينا في تفسيره لا يبطينا تأويله ، بَل نَتَّبع حَقَايِقَه ، فأطيعونا فإنَّ طاعتَنَا مفروضة إن كانت بطاعةِ الله ورسولِهِ مقرونة …
وأُحذرُكم الإصغاء إلى هتوفِ الشيطان بكم ، فإنَّه لكم عدوٌّ مبين ، فتكونوا كأوليائه الذين قال لهم : لا غالب لكم اليومَ من النَّاس وإنِّي جارٌ لكم .
فلما تراءت الفئتان نَكَصَ على عَقِبَيهِ وقال : إنِّي بريءٌ منكم ، فَتلقون للسيوف ضرباً وللرِّماح ورداً وللعمد حطماً وللسِّهام غرضاً ، ثم لا يُقبَلُ من نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً ) .
مـــــــع الـــــــتـــــــحــــــــيـــــــات
رد: ســـــيــــرة الإمــــام الــــحــــســــيــــن { ع }
موقف الإمام الحسين ( عليه السلام ) من يزيد بن معاوية
جسَّد الإمام الحسين ( عليه السلام ) في هذا الموقف الرسالي الفريد أحد أبرز مصاديق وحدة الهدف في تحقيق مصلحة الإسلام حين نهض ( عليه السلام ) في وجه يزيد بن معاوية مسترخصاً كل شيء في سبيل تلك المصلحة .
و من أبرز مصاديق الحكمة في نهضة الإمام الحسين ( عليه السلام ) هي :
أولاً :
إن معاوية في تنصيبه لابنه يزيد من بعده للخلافة قد نقض عهده المبرم في صلحه مع الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، وبذلك أصبح الإمام الحسين ( عليه السلام ) أمام أمر مستحدث يقتضي منه موقفاً يتناسب وما تمليه مصلحة الإسلام العُليا .
ثانياً :
إن تنصيب يزيد من قبل أبيه معاوية خليفة للمسلمين أصبح أكبر قضية تُهدِّد أساس العقيدة الإسلامية ، وذلك من خلال الانحراف الخطير الذي سيطرأ على مسألة الحكم الإسلامي وخلافة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
فإن تنصيب مثل يزيد للخلافة – وهو المتجاهر بالفسق والفجور والزنا وشرب الخمور – يعني على أقل تقدير وقوع الحكم الإسلامي في خطر التَحوّل الجذري ، والانقلاب الكلي في الحكم الإلهي الذي جاء به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وما يقوم على أساسه من عدل وقسط وصلاح .
ثالثاً :
إن مشكلة الانحراف الجذري في مسألة الخلافة آنذاك لم تكن في إدراك مجمل هذه الحقيقة .
فقد كان المسلمون المخلصون – وعلى رأسهم كبار الصحابة والتابعين من الموالين لأهل البيت ( عليهم السلام ) ومحبِّيهم – مدركين لها ولخطورتها .
إلا أن الإرادة العامة للمسلمين لم تكن بمستوى هذا الإدراك ، مما دفع الإمام الحسين ( عليه السلام ) لتحمّل هذه المسؤولية الكبرى .
فانبرى ( عليه السلام ) لبذل دمه ودماء أهل بيته وأصحابه لتكون وقوداً ساخناً لإلهاب تلك الإرادة الهامدة ، وتعرية حقيقة الجاهلية الكامنة في خلافة يزيد بن معاوية .
وقد بدأت منذ نهضته وبعد استشهاده ( عليه السلام ) مرحلة المواجهة والجهاد العنيد لهذا الخطِّ المنحرف ، ليقوم للدين عَمود ولتستقيم كلمته في العباد .
ولتصديق ذلك لا بُدَّ لنا من إلقاء نظرة على نماذج من أقواله ( عليه السلام ) ، لنتلمس من خلالها المحتوى المبدئي في حفظ مصلحة الإسلام ورعايتها التي ضحَّى الإمام الحسين ( عليه السلام ) بنفسه وأهل بيته وأصحابه ( عليهم السلام ) من أجلها .
ومن هذه الأقوال ما يلي :
الأول : قوله ( عليه السلام ) : ( لا بَيعةَ لِيَزيد ، شارب الخُمور ، وقاتِل النَّفس المحرَّمة ... ) .
وكتب يزيد إلى الوليد بن عتبة كتاباً يطلب فيه أخذ البيعة على أهل المدينة ، ثم أرفق الكتاب بصحيفة صغيرة فيها : خذ الحسين ، وعبد الله بن عُمر ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً ، ومن أبَى فاضرب عنقه ، وابعث إليَّ برأسه ، وقام العامل بهذه المهمة ، فبعث إلى الإمام الحسين ( عليه السلام ) في منتصف الليل .
ولما استقر المجلس بالإمام ( عليه السلام ) نعى الوليد إليه معاوية ، ثم عرض عليه البيعة ليزيد ، فقال ( عليه السلام ) : ( مِثلِي لا يُبَايِعُ سِرّاً ، فإذا دعوتَ النَّاسَ إلى البَيعَة دَعوتَنا معَهُم فكان أمراً واحداً ) .
ثم أقبل ( عليه السلام ) على الوليد وقال : ( أيها الأمير ، إنَّا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فَتح الله وبنا يختم ، ويزيد رجل شَاربُ الخُمورِ ، وقاتلُ النفس المحرَّمة ، مُعلنٌ بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أيّنا أحَقّ بالخلافة ) .
الثاني : قوله ( عليه السلام ) : ( الخِلافَةُ مُحَرَّمَة على آل أبي سُفيَان ... ) .
بعد أن رفض الإمام الحسين ( عليه السلام ) بيعة يزيد لقيه مروان عند صباح اليوم الثاني ، فدار بينهما كلام ، ونصح فيها مروانُ الإمامَ ( عليه السلام ) ببيعة يزيد .
فاسترجع الحسين ( عليه السلام ) وقال : ( على الإِسلام السَّلام ، إذا بُلِيَت الأمة بِراعٍ مثل يزيد ، ولقد سَمِعتُ جدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : ( الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان ، فإذا رأيتُم معاوية على منبري فابقروا بَطنَه ) ، وقد رآهُ أهل المدينة على المنبر فلم يبقروا ، فابتلاهم الله بيزيد الفاسق ) .
وطال الحديث بينهما حتى انصرف مروان مغضباً .
الثالث : قوله ( عليه السلام ) : ( لَو لم يَكُن في الدنيا مَلجَأ ولا مَأوىً لَمَا بَايَعتُ يَزيد ) .
روي أن محمد بن الحنفية قال للإمام الحسين ( عليه السلام ) : يا أخي ، أنت أحبّ الناس إليَّ ، وأعزّهم عليَّ ، ولستُ أدَّخر النصيحة لأحد من الخلق إلاَّ لك ، وأنت أحَقّ بها : تَنحَّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت ، ثم ابعث برسلك إلى الناس ، فإن بايعوك حَمدتَ الله على ذلك ، وإن اجتمعوا على غيرك لم ينقص اللهُ بذلك دينَك ولا عقلَك ، ولم تذهب مروءتك ولا فضلك ... .
فقال الحسين ( عليه السلام ) : ( فأين أذهب ) ؟
قال : تنزل مكة ، فإن اطمأنَّت بك الدار ، وإلا لحقت بالرمال وشعف الجبال ، وخرجتَ من بلد إلى آخر حتى تنظر ما يصير إليه أمر الناس .
فقال الحسين ( عليه السلام ) : ( يَا أخي ، لَو لم يَكُن في الدنيا ملجأ ولا مأوىً لَما بايعتُ يَزيد بن معاوية ) .
الرابع : قوله ( عليه السلام ) : ( خَرجتُ لِطَلب الإصلاحِ في أُمَّة جَدِّي مُحَمَّد ... ) .
كتب الحسين ( عليه السلام ) قبل خروجه من المدينة وصيَّة لأخيه محمد بن الحنفية قال فيها : ( ... وإني لم أخرج أشِراً ولا بطراً ، ولا مُفسِداً ولا ظالماً ، وإنما خَرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جَدِّي ( صلى الله عليه وآله ) .
أريد أن آمر بالمعروف ، وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جَدِّي وأبي علي بن أبي طالب ، فَمن قَبلَني بقبول الحق فالله أولى بالحق ، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم ، وهو خير الحاكمين ) .
الخامس : قوله ( عليه السلام ) : ( ما الإمامُ إلا العاملُ بالكتاب ، والآخِذُ بالقِسطِ ، والدائن بالحقِّ ... ) .
فقد ذكر المؤرخون أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) وَافَتْهُ في مكة كُتب أهل الكوفة من الرجل والاثنين والثلاثة والأربعة ، يسألونه القدوم عليهم لأنهم بغير إمام .
وكثرت لديه ( عليه السلام ) الكتب ، حتى ورد عليه في يوم واحد ستمِائة كتاب ، واجتمع عنده اثنا عشر ألف كتاب .
ولما اجتمع عنده ما ملأ خرجين ، كَتَب إليهم كتاباً واحداً دفعه إلى ابن عمّه مسلم بن عقيل ، وقال ( عليه السلام ) فيه : ( بسم الله الرحمن الرحيم ، من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين ، أما بعد : فإن هانئاً وسعيداً قدما عليَّ بكتبكم ، وكانا آخر من قدم عليَّ من رسلكم ، وقد فهمت كل الذي قَصَصتُم وذكرتم ، ومقالةُ جُلَّكُم أنه : ليس علينا إمام فأقبِلْ ، لَعَلَّ الله أن يَجمعَنا بك على الهُدَى والحق .
وقد بعثتُ إليكم أخي وابن عمِّي وثقتي من أهل بيتي ، وأمرتُه أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم ، فإن كتب أنه قد اجتمع رأي مَلَئِكم وذوي الفضلِ والحِجَى منكم على مثلِ مَا قَدِمَت عليَّ بِهِ رُسُلكم ، وقرأتُ في كتبكم ، أقدمُ عَليكُم وشيكاً إن شاء الله ، فَلَعَمْرِي ، مَا الإمام إلا العامل بالكتاب ، والآخذ بالقسط ، والدائن بالحق ، والحابس نفسه على ذات الله والسلام ) .
السادس : قوله ( عليه السلام ) : ( رِضَا اللهُ رِضَانا أهلَ البيت ... ) .
قد ورد أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) لمَّا بلغه أنَّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر ، وأمَّره على الحاج ، وولاَّه أمر الموسم ، وأوصاه بالفتك بالحسين ( عليه السلام ) أينما وُجِد ، عَزم ( عليه السلام ) على الخروج من مكة قبل إتمام الحج ، واقتصر على العمرة كراهية أن تستباح به حرمة البيت .
وقبل أن يخرج قام ( عليه السلام ) خطيباً فقال : ( الحمد لله ، وما شاء الله ، ولا قوة إلاَّ بالله ، وصلَّى الله على رسوله : خُطَّ الموت على وِلد آدم مَخطَّ القِلادة على جِيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخير لي مَصرع أنا لاقِيه ، كأني بأوصالي تُقطِّعها عُسلانِ الفلاة بَين النَّوَاويسِ وَكَربَلا ، فيملأنَّ منّي أكراشاً جوفاً ، وأجربة سغباً .
لا مَحيصَ عن يَومٍ خُطَّ بالقلم ، رضا الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ويوفّينا أجور الصابرين ... ) .
السابع : قوله ( عليه السلام ) : ( نحنُ أهلُ بيتِ مُحمَّدٍ أوْلَى بولاية هذا الأمر ... ) .
سار الإمام الحسين ( عليه السلام ) بعد خروجه من مكة حتى نزل في شراف ، وهناك التقى بالحر الرياحي مع ألف فارس معه ، فقام فيهم خطيبا فقال : ( أيّها النَّاس ، إنَّكم إن تَتَّقوا الله وتعرفوا الحقَّ لأهله يَكن أرضى لله ، ونحن أهلُ بَيت محمد أوْلَى بولاية هذا الأمر من هَؤلاءِ المدّعين ما ليس لهم ، والسائرين بالجور والعدوان ) .
وهناك أقوال كثيرة مأثورة عن الإمام الحسين ( عليه السلام ) في هذا المجال مبيِّنة العِلَّة من موقفه هذا من يزيد ، وسبب خروجه عليه ، وكذلك تبيِّن عزَّة الإمام ( عليه السلام ) ومظلوميَّته هو وأهل بيته ( عليهم السلام ) .
وتَتِمَّة لما سبق نذكر سَرداً منها بشكل مختصر :
الثامن : قوله ( عليه السلام ) :
( مَن رأى سُلطاناً جائراً مُستَحلاًّ لِحَرام الله ، ناكثاً عهده ، مخالفاً لِسُنَّة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغيِّر عليه بفعل ولا قول ، كان حقاً على الله أنْ يُدخِله مَدخَله ) .
التاسع : قوله ( عليه السلام ) : ( إِنِّي لا أرَى المَوتَ إلا سَعادةً ، وَالحَياةَ مَع الظالمين إِلاَّ بَرَماً ) .
العاشر : قوله ( عليه السلام ) : ( لا وَالله ، لا أُعطِيكُم بِيَدي إعطَاءَ الذَّليل ، وَلا أفِرُّ فِرارَ العَبيد ) .
الحادي عشر : قوله ( عليه السلام ) : ( هَيْهَات مِنَّا الذِّلَّة ، يَأبى اللهُ لَنا ذَلكَ وَرَسولُهُ والمؤمِنون ) .
الثاني عشر : قوله ( عليه السلام ) : ( يَا أُمَّةَ السّوء ، بِئسَمَا خَلفْتُم مُحَمَّداً فِي عِترتِه ، أما إنكم لا تقتلون رجلاً بعدي فتهابون قتله ، بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم إياي ) .
الثالث عشر : قوله ( عليه السلام ) : ( اللَّهُمَّ احكُم بَيننا وبَين قَومِنا ، فإِنَّهم غَرُّونا ، وخَذَلونا ، وغَدَروا بنا ، وقَتَلُونا ونحنُ عِترَة نبيِّك ) .
مـــــــع الـــــــتـــــــحــــــــيـــــــات
رد: ســـــيــــرة الإمــــام الــــحــــســــيــــن { ع }
وصول الإمام الحسين ( عليه السلام ) إلى كربلاء
في إحدى المحطَّات الواقعة في الطريق إلى كربلاء قام الإمام الحسين ( عليه السلام ) خطيباً ، موضِّحاً لأصحابه المصير الذي ينتظرهم .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( إنَّه قدْ نَزَل بنا من الأمر ما قد تَرَون ، وإن الدنيا قد تغيَّرت وتنكَّرت ، وأدبَر مَعروفُها ، واستمرَّت حدَّاء [ مقطوعة ] ، ولم تبقَ منها إلا صبابة كَصبابة الإناء ، وخَسيس عَيشٍ كالمَرْعى الوَبيل .
ألاَ تَرَون إلى الحقِّ لا يُعمَل به ، وإلى الباطلِ لا يُتناهى عنه ، ليرغب المؤمنُ في لقاء ربِّه مُحقاً ، فإني لا أرى الموت إلا سعادة ، والحياة مع الظالمين إلا بَرَماً [ مللاً ] ) .
وسار الركب نحو كربلاء ، ولم يقطع مسافة طويلة حتى اعترضه الجيش الأموي ، واضطرَّه للنزول .
فراح الإمام ( عليه السلام ) يسأل وكأنَّه يبحث عن أرض كربلاء ، فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( مَا اسْمُ هَذه الأرض ؟ ) .
فقيل له : أرض الطف .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( هَلْ لَهَا اسمٌ غير هذا ؟ ) .
قيل : اسمُها كربلاء .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( اللَّهُمَّ أعوذُ بك من الكَرْبِ والبَلاء ) .
ثم قال الإمام ( عليه السلام ) : ( هَذا مَوضع كَربٍ وبَلاء ، انزلوا ، هَاهُنا مَحطُّ رِحالِنا ، ومَسفَكُ دِمائِنَا ، وهَاهُنا مَحلُّ قبورِنا ، بِهَذا حدَّثني جَدِّي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ) .
فنزل الإمام الحسين ( عليه السلام ) في أرض كربلاء ، وضَرَب فِسْطَاطه ، وراحَ يُعدُّ سِلاحه ، ويصلح سَيفه ، مُردِّدا ( عليه السلام ) الأبيات الآتية :
يَا دَهْرُ أُفُّ لَكَ مِن خَليلِ ** كمْ لك بالإشرَاقِ والأصيلِ
مِن طَالبٍ وصَاحبٍ قَتيل ** والدَّهْر لا يَنفَعُ بالبَديلِ
وكُلّ حيٍّ سَالِكٌ سَبيلِ ** مَا أقرَبُ الوَعْد مِن الرَّحيل
وإنما الأمرُ إلى الجَليلِ
فكان الإمام الحسين ( عليه السلام ) يردد أبيات الشعر وزينب ( عليها السلام ) تنصت إليه ، وتقرأ من خلال الشعر مشاعره وأحاسيسه ، فتندبه وتناديه بصوتٍ يملأه الحنان ، فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( نَعَمْ يا أختَاه ) .
فقالت ( عليها السلام ) : ( وَاثكْلاه ، يَنعي الحُسَين إليَّ نَفسَه ) .
مـــــــع الـــــــتـــــــحــــــــيـــــــات
رد: ســـــيــــرة الإمــــام الــــحــــســــيــــن { ع }
منع الإمام الحسين ( عليه السلام ) من الماء
بعث عمر بن سعد خمسمِائة فارس بقيادة عمرو بن الحجاج ، فنزلوا على الشريعة ، وحالوا بين الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه ( رضوان الله عليهم ) وبين الماء ، ومنعوهم أن يستسقوا منه قطرة ، وذلك في اليوم السابع من المُحرَّم عام ( 61 هـ ) .
ولما اشتدَّ العطش بالإمام الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه ، فأمَرَ أخاه العباس بن علي ( عليهما السلام ) ، فسار في عشرين رجلاً يحملون القرب ، وثلاثين فارساً ، فجاءوا حتى دنوا من الماء ليلاً .
وكان أمامهم نافع بن هلال الجملي يحمل اللِّواء ، فقال عمرو بن الحجاج مَن الرجل ؟
قال : نافع .
قال : ما جاء بك ؟
قال : جِئْنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا [ منعتمونا ] عنه .
قال : فاشْرَب هنيئاً .
قال نافع : لا والله ، لا أشرب منه قطرة والحسين عطشان هو وأصحابه .
وروى سبط بن الجوزي : أنهم اقتتلوا على الماء ، ولم يمكنوهم من الوصول إليه ، وضيَّق القوم على الحسين ( عليه السلام ) ، حتى نال منه العطش ومن أصحابه .
فقال له برير بن خضير : يا ابن رسول الله ، أتأذن لي أن اخرج إلى القوم ، فأذن له ، فخرج إليهم فقال : يا معشر الناس ، إنَّ الله عزَّ وجلَّ بعث محمداً بالحق بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه ، وسراجاً منيراً .
وهذا ماء الفرات ، تقع فيه خنازير السواد وكلابه ، وقد حيل بينه وبين ابن نبيِّه .
فقالوا : يا برير ، قد أكثرت الكلام ، فاكففْ ، والله ليعطش الحسين كما عطش من كان قبله .
فقال الإمام الحسين ( عليه السلام ) : ( اقعُدْ يا بُرير ) .
ثم قام الإمام ( عليه السلام ) فنادى بأعلى صوته ، فقال : ( أنشِدُكُم الله ، هل تعلمون أن جَدِّي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ ) .
قالوا : اللَّهُمَّ نعم .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( أُنشِدُكُم الله ، هل تعلمون أن أمِّي فاطمة بنت محمد ( صلى الله عليه وآله ) ؟ ) .
قالوا : اللَّهُمَّ نعم .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( أُنشِدكم الله ، هل تعلمونَ أنَّ أبي علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ؟ ) .
قالوا : اللَّهُمَّ نعم .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( أُنشدكم الله ، هل تعلمون أن جَدَّتي خديجة بنت خُوَيلد ، أوَّل نساءِ هذه الأمة إسلاماً ؟ ) .
قالوا : اللَّهُمَّ نعم .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( أُنشِدُكُم الله ، هل تعلمون أن سيِّدَ الشهداء حمزة عَمُّ أبي ؟ ) .
قالوا : اللَّهم نعم .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( أُنشِدُكُم الله ، هل تعلمون أن هذا سيف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنا مُتقلِّدُه ؟ ) .
قالوا : اللَّهُمَّ نعم .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( أُنشِدُكُم الله ، هل تعلمون أن هذه عمَامة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنا لابِسُها ؟ ) .
قالوا : اللَّهُمَّ نعم .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( أنُشِدُكُم الله ، هل تعلمون أنَّ علياً كان أول القوم إسلاماً ، وأعلمُهُم علماً ، وأعظمُهم حِلماً ، وأنه وليُّ كلِّ مؤمنٍ ومؤمنة ؟ ) .
قالوا : اللَّهُمَّ نعم .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( فِيمَ تَستحِلُّون دَمي وأبي الذائِدُ عن الحوض ، يذودُ عنه رِجالاً كَمَا يذاد البعير الصاد عن الماء ، ولواءُ الحمدِ في يَدِ أبي يوم القيامة ) .
قالوا : قد علمنا ذلك كُلّه ، ونحنُ غير تاركيك ، حتى تَذوقَ الموت عطشاً .
فلما خطب الإمام الحسين ( عليه السلام ) هذه الخطبة ، وسمعت بناتُه وأخواتُه كلامَه بِكيْنَ ، وارتفعت أصواتَهُنَّ .
فوجَّهَ الإمام الحسين ( عليه السلام ) إليهِنَّ أخَاه العباس وعلياً ابنه ( عليهما السلام ) ، وقالَ لهما : ( أَسكِتَاهُنَّ فَلعمري لَيكثرنَّ بُكاؤهُنَّ ) .
مـــــــع الـــــــتـــــــحــــــــيـــــــات
رد: ســـــيــــرة الإمــــام الــــحــــســــيــــن { ع }
صبر الإمام الحسين ( عليه السلام )
من النزعات الفَذَّة التي تَفرَّد بها سيد الشهداء الإمام الحسين ( عليه السلام ) هي الصبر على نوائب الدنيا وَمِحَن الأيام .
فقد تجرَّع ( عليه السلام ) مَرارة الصبر منذ أن كان طفلاً ، فرزئ بِجدِّه النبي الأكرم محمد ( صلى الله عليه وآله ) وأُمّه فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ، وشاهد الأحداث الرهيبة التي جرت على أبيه أمير المؤمنين الإمام علي ( عليه السلام ) وما عاناه من المحن والخطوب .
كما وتَجرَّع مَرَارة الصبر في عهد أخيه الإمام الحسن ( عليه السلام ) وهو ينظر إلى خُذلانِ جَيشه لَه ، وغَدرهم بِه ، حتى أُرغِم ( عليه السلام ) على الصلح .
فبقي الحسين ( عليه السلام ) مع الحسن ( عليه السلام ) يشاركه في مِحَنه وآلامه حتى اغتالَهُ معاوية بالسم ، وَرَامَ أن يُوارَى جثمانه بجوار جَدِّه ( صلى الله عليه وآله ) ، فَمَنعتهُ بنو أمية ، فكان ذلك من أشَقِّ المِحنِ عليه .
ومن أعظم الرزايا التي صَبر عليها أنه ( عليه السلام ) كان يرى انتقاض مبادئ الإسلام وما يوضع على لِسان جَده ( صلى الله عليه وآله ) من الأحاديث المُنكَرة التي تغيّر وتبدّل شريعة الله .
ومن الدواهي التي عاناها ( عليه السلام ) أنه كان يسمع سَبَّ أبيه الإمام علي ( عليه السلام ) ، وانتقاصه على كل هذه الرزايا والمصائب .
وتواكبت عليه المِحَن الشاقة في يوم العاشر من المُحرَّم ، فلم يكد ينتهي ( عليه السلام ) من مِحنة حتى تطوف به مجموعة من الرزايا والآلام .
فكان يقف على الكواكب المشرقة من أبنائه وأهل بيته ( عليهم السلام ) ، وقد تَنَاهَبَت السيوف والرماح أشْلاءهُم ، فيخاطبهم ( عليه السلام ) بِكُل طُمَأنينة وثَبَات : ( صَبراً يا أهلَ بَيتي ، صَبراً يَا بَني عُمُومَتِي ، لا رَأيتُم هَواناً بَعدَ هَذا اليوم ) .
وقد بَصر شقيقته أم المصائب عقيلة بني هاشم زينب الكبرى ( عليها السلام ) وقد أذهَلَتها الخطوب ومَزَّق الأسى قَلبُها ، فَسارَعَ ( عليه السلام ) إليها ، وأمرَهَا بالخلود إلى الصبر والرضا بما قَسَم اللهُ .
ومن أهوال تلك الكوارث التي صبر الأمام ( عليه السلام ) عليها أنه كان يرى أطفاله وعياله وهم يَضجّون من ألم الظمَأ القاتل ، ويستغيثُون به من العطش ، فكان ( عليه السلام ) يأمرهم بالصبر والاستقامة ، ويخبرهم بالعاقبة المشرقة التي يؤول إليها أمرهم بعد هذه المِحَن المؤلمة .
وقد صَبر ( عليه السلام ) على مُلاقاة الأعداء الذين مَلأتِ الأرضَ جُمُوعُهُم المُتَدفِّقَة ، وهو ( عليه السلام ) وَحده يتلقَّى الضرب والطعن من جَميع الجهات ، قد تَفَتَّتَ كبده من العطش وهو غير حافل بذلك كُله .
فقد كان صبره ( عليه السلام ) وموقفه الصلِب يوم الطف من أندر ما عرفته الإنسانية .
فيقول الأربلي : شَجاعةُ الحسين ( عليه السلام ) يُضرَبُ بها المَثَل ، وصَبرُهُ في الحرب أعجزَ الأوائلَ والأواخِرَ .
فإن أي واحدةٍ من رزاياه لو ابتلى بها أي إنسان مهما تَدرَّعَ بالصبر والعزم وقوة النفس لأوهنت قُواه ، واستسلم للضعف النفسي .
ولكنه ( عليه السلام ) لم يَعْنَ بما ابتُلِي به في سبيل الغاية الشريفة التي سَمَت بِرُوحه أن تستسلم للجَزَع أو تَضرَعُ للخطوب .
ويقول المؤرخون : إنه ( عليه السلام ) تَفرَّد بهذه الظاهرة ، فلم تُوهِ عزمَهُ الأحداثُ مهما كانت ، لقد رضى بقضاء الله ، واستسلم لأمره ، وهذا هو جوهر الإسلام ، ومنتهى الإيمان .
مـــــــع الـــــــتـــــــحــــــــيـــــــات
رد: ســـــيــــرة الإمــــام الــــحــــســــيــــن { ع }
شهادة الإمام الحسين ( عليه السلام )
قَضى الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه ( رضوان الله عليهم ) ليلة العاشر من المحرَّم بالصلاة ، والدعاء ، وقراءة القرآن .
وكان لهم دويٌّ كدوي النحل ، وحركة واستعداد لِلِقَاء الله سبحانه ، يُصلِحُون سيوفَهم ورماحَهَم .
فباتوا تلك الليلة ضيوفاً في أحضان كربلاء ، وبات التاريخ أرَقاً ينتظر الحدث الكبير .
وفي صَباح اليومِ العاشر ، طلب الإمام الحسين ( عليه السلام ) - إتماماً للحُجَّة على أعدائه - من جيش يزيد ، أن ينصِتُوا إليه لكي يكلِّمُهم .
إلاَّ أنَّهم أبوا ذلك ، وعَلا ضَجيجهم ، وفي النهاية سَكَتوا ، فخطب فيهم معاتباً لهم على دعوتهم له ، وتخاذلهم عنه .
كما حدثهم ( عليه السلام ) بما سيقع لهم بعد قتله على أيدي الظالمين ، من ولاة بني أمية ، مِمَّا عُهد إليه من جَدِّه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأبيه أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) ، وهو ما تحقَّق فعلاً .
وخصَّ في ذلك عُمَر بن سعد ، الذي كان يزيد يمنِّيه بجعله والياً على الريّ وجرجان ، بأنَّ حلمه ذاك لن يتحقق ، وأنَّه سوف يُقتَل ، ويرفع رأسُه على الرمح .
ثم عاد الإمام الحسين ( عليه السلام ) مرةً أخرى على ظهر فرسه ، ووقف أمام الجيش الأموي ، وخاطبهم ( عليه السلام ) قائلاً : ( أمَّا بَعد ، فانسبونِي فانظُروا مَن أنَا ، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها ، فانظروا هَلْ يحلُّ لَكُم قتلي ، وانتهاكُ حُرمتي ؟ .
ألسْتُ ابن بنتِ نبيِّكم ، وابن وصيِّه وابن عمِّه ، وأوَّل المؤمنين بالله ، والمصدِّق لِرسولِه بما جاء من عند رَبِّه ؟
أوَ ليس حمزة سَيِّد الشهداء عَمّ أبي ؟ أو ليسَ جَعفر الشَّهيد الطيَّار ذو الجناحين عَمِّي ؟ أوَ لَمْ يَبلُغْكُم قول مُستفيض : أنَّ رسولَ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) قال لي ولأخي : هَذان سَيِّدا شَبَاب أهل الجنة ) .
فَلَم يستجبْ له أحد ، ثمَّ خاطبهم ( عليه السلام ) قائلاً : ( أمَا تَرونَ سَيفَ رَسولِ الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولاَمَةَ حَربِه ، وعمَامتَه عليَّ ) .
قالوا : نعم .
فقال ( عليه السلام ) : ( لِمَ تُقاتِلونِي ) .
أجابوا : طَاعةً للأمير عُبَيد الله بن زياد .
واستحوَذَ الشيطان عَلى ابنِ سعد ، فوضع سَهمُه في كَبد قوسه ، ثم رَمَى مُخيَّم الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، وقال : اِشهدُوا أنِّي أوَّل من رمى ، فتبِعَه جنده يُمطِرون آل الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بوابِلِ من السهام .
فعظُمَ الموقف على الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، ثم خاطب أصحابه قائلاً : ( قُومُوا رَحِمكم الله إلى الموتِ الَّذي لا بُدَّ منه ، فإن هذه السِّهام رُسل القوم إليكم ) .
فلبوا ( رضوان الله عليهم ) النداء ، وانطلقوا كالأسُود يُحارِبون العَدو ، فاستمرت رَحَى الحرب تَدورُ في ميدان كربلاء .
وبدأ أصحاب الحسين ( عليه السلام ) يتساقطون الواحد تلو الآخر ، وقد أرهقوا جيش العدو ، وأثخنوه بالجراح .
فَتَصايَح رِجالُ عُمرِ بن سعد : لو استمرَّت الحربُ بَيننا ، لأتوا على آخرنا ، لِنَهجم عليهم مَرَّة واحدة ، ولِنرشُفهُم بالنِبال والحجارة .
واستمرَّ الهجوم والزَحف نحو من بقي مع الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، وأحاطوا بهم من جهات مُتعدِّدة ، فتعالَتْ أصواتُ ابن سعد ونداءاته إلى جيشه ، وقد دخل المعسكرُ يقتل وينهب ، ويقول : اِحرقوا الخيامَ .
فضجَّت النساء ، وتصارَخَ الأطفال ، وعَلا الضجيج ، وراحت ألسِنة النار تلتهِم المخيَّم ، وسُكَّانه يفرُّون فزعين مرعوبين .
فلم يهدأ سَعير المعركة ، وراح مَن بقي من أصحاب الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأهل بيته ، يستشهدون الواحد تلو الآخر .
فاستشهدَ وَلدُه علي الأكبر ، وأخوته ، وأبناء أخيه ، وابن أخته ، وآل عقيل ، وآل علي ( عليه السلام ) ، مجزَّرينَ كالأضاحي ، وهم يَتَناثرون في أرضِ المعركة .
وكذا بدأ شَلاَّل الدم ينحدر على أرض كربلاء ، وصَيحاتُ العطش والرُعب تتعالَى من حناجر النِساء والأطفال .
فركب الإمام الحسين ( عليه السلام ) جوادَه ، يتقدَّمُه أخوه العباس بن علي ( عليه السلام ) ، وتوجَّه نحو نَهْر الفرات ، ليحمل الماء إلى العيال ، فحالَتْ حشود العدو دونه ، فأصبح هو في جانب وأخيه في جانب آخر .
وكانَتْ للبطل الشجاع أبي الفضل العباس ( عليه السلام ) صَولَةً ومعركةً حامية ، طارت فيها رؤوس ، وتساقَطَتْ فرسان ، وهو يصول ويجول في ميدان الجهاد ، بعيداً عَن أخيه ، حتى خرَّ صريعاً سابحاً بدم الشهادة .
وتعلَّق قلب أبي عبد الله الحسين ( عليه السلام ) بِمخَيَّمه ، وما خلَّفت النار والسُيوف بأهله وحَرَمه .
فراح ( عليه السلام ) ينادي ، وقد طوَّقته قوات الأعداء وحالت بينه وبينهم ، فصاح ( عليه السلام ) بهم : ( أنَا الَّذي أقاتِلُكم ، والنِّساء لَيسَ عَليهنَّ جُناح ، فامْنَعوا عُتاتكم عن التعرُّض لحَرَمي ما دُمتُ حَيّاً ) .
إلاَّ أنَّهم استمرّوا في هُجومِهِم على المخيَّم ، ولم يعبئوا لكلامه ( عليه السلام ) .
فاستمرَّ الهُجوم عنيفاً ، والإمام ( عليه السلام ) منهمِكاً في قتال أعدائه ، إلى أن سَدَّد له أحد الأجلاف سَهماً ، واستقرَّ في نحره الشريف ، ثمَّ راحَت السُيوف والرِماح تنزل عليه كالمطر الغزير .
فلم يستطع ( عليه السلام ) مقاوَمَة الألم والنَزف ، فوقع على الأرض ، ولم يكفُّوا عنه ، لأنَّ روح الحِقْد والوحشيَّة التي امتلأَتْ بها جوانحهم لم تسمح بذلك .
بلْ راح المَلعُون شمر بن ذي الجوشن ، يحمل سيفه ليقطع غُصْناً من شجرة النبوَّة ، وليُثكِل الزهراء ( عليها السلام ) بأعزِّ أبنائها ، ففصلَ الرأسُ الشريف عن الجسد ، لِيحملَهُ هديَّة للطاغية .
ذلك الرأسُ الَّذي طَالَما سَجَد لله ، وحمل اللِّسان الذي مَا فتئ يُردّد ذكر الله ، وينادي ( عليه السلام ) : ( لا أعطِيكُم بِيَدي إِعطَاء الذَّليل ، ولا أقرُّ إِقرَار العبيد ) .
الرأس الذي حَمَل العِزَّ والإباء ، ورفض أن ينحني للعتاة أو يطأطأ جَبهته للظالمين .
وهكذا وقعت الجريمة البشعة ، جريمة يوم العاشر من المحرم 61 هـ .
مـــــــع الـــــــتـــــــحــــــــيـــــــات
رد: ســـــيــــرة الإمــــام الــــحــــســــيــــن { ع }
جزاء قاتلي الإمام الحسين ( عليه السلام )
حُكِيَ عن السدِّي قال : أضافني رجل في ليلة كنت أحبُّ الجليس ، فرحَّبت به وأكرمته ، وجلسنا نتسامر وإذا به ينطلق بالكلام كالسيل إذا قصد الحضيض .
فطرقت له فانتهى في سمره إلى طفِّ كربلاء ، وكان قريب العهد من قتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، فتأوَّهتُ وتزفَّرتُ ، فقال : مَا لَكَ ؟
قال السدِّي : ذكرت مصاباً يهون عنده كل مصابٍ .
قال الرجل : أما كنتَ حاضراً يوم الطفِّ ؟
قال السدِّي : لا والحمد لله .
قال الرجل : أراك تَحمُد ، على أيِّ شيء ؟!!
قال السدِّي : على الخلاص من دم الحسين ( عليه السلام ) لأنَّ جدَّه ( صلى الله عليه وآله ) قال : إن مَن طُولِبَ بدم ولدي الحسين يوم القيامة لخفيف الميزان .
قال الرجل : هكذا قال جدّه ( صلى الله عليه وآله ) ؟
قال السدِّي : نعم ، وقال ( صلى الله عليه وآله ) : ( ولدي الحسين يقتل ظلماً وعدواناً ، أَلا ومن قتله يدخل في تابوت من نار ، ويعذَّب بعذاب نصفِ أهل النار ، هو ومن شايع وبايع أو رضي بذلك ، كُلَّما نضجت جلودهم بُدِّلوا بجلود غيرها ليذوقوا العذاب ، فالويل لهم من عذاب جهنَّم ) .
قال الرجل : لا تصدِّق هذا الكلام يا أخي ؟
قال السدِّي : كيف هذا وقد قال ( صلى الله عليه وآله ) : ( لا كَذِبتُ وَلا كُذِّبتُ ) .
قال الرجل : ترى قالوا : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( قاتل ولدي الحسين لا يطول عمره ، وها أنا وحقك قد تجاوزت التسعين مع أنك ما تعرفني ) .
قال السدي : لا والله .
قال الرجل : أنا الأخنس بن زيد .
قال السدِّي : وما صنعتَ يومَ الطف ؟
قال الأخنس : أنا الذي أُمِّرتُ على الخيل الذين أمرهم عمر بن سعد بوطئِ جسم الحسين بسنابك الخيل ، وهشمت أضلاعه ، وجررت نطعا من تحت علي بن الحسين وهو عليل حتى كببتُه على وجهه ، وخرمت اُذنَي صفـيَّة بنت الحسين ، لقرطين كانا في أذنيها .
قال السدِّي : فبكى قلبي هجوعاً ، وعيناي دموعاً ، وخرجت أُعالج على إهلاكه ، وإذا بالسراج قد ضعفت ، فقمت أزهرها .
فقال : إجلس ، وهو يحكي متعجباً من نفسه وسلامته ، ومدَّ إصبعه ليزهرها فاشتعلت
به ، فَفَرَكَهَا في التراب فلم تنطفِ .
به ، فَفَرَكَهَا في التراب فلم تنطفِ .
فصاح بي : أدركني يا أخي فكببتُ الشربة عليها وأنا غير محبٍّ لذلك ، فلما شمَّت النار رائحة الماء ازدادت قوَّة ، وصاح بي ما هذه النار وما يطفئها ؟!! .
قلت : ألقِ نفسك في النهر ، فرمى بنفسه ، فكلَّما ركس جسمه في الماء اشتعلت في جميع بدنه كالخشبة البالية في الريح البارح ، هذا وأنا أنظره .
فَوَالله الذي لا إله إلا هو ، لم تُطفَأ حتى صار فحماً ، وسار على وجه الماء !!
وقصة اخرى :
روي عن عبد الله بن رباح القاضي أنه قال : لقيت رجلاً مكفوفاً قد شهد قتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) .
فَسُئِلَ عن بصره ، فقال : كنت شهدت قتله عاشر عشرة غير أني لم أطعن برمح ، ولم أضرب بسيف ولم أرمِ بسهم .
فلما قُتل ( عليه السلام ) رجعت إلى منزلي وصلَّيت العشاء الآخرة ونمتُ .
فأتاني آتٍ في منامي فقال : أجب رسول الله !!
فقلت : مَا لِي وَلَهُ ؟
فأخذ بتلبيبي وجَرَّني إليه ، فإذا النبي ( صلى الله عليه وآله ) جالس في صحراء ، حاسرٌ عن ذارعيه ، آخذ بحربة ، وملك قائم بين يديه ، وفي يده سيف من نار يقتل أصحابي التسعة .
فكلَّما ضرب ضربة التهبَتْ أنفسهم ناراً !!
فدنوت منه وجثوت بين يديه ، وقلت : السلام عليك يا رسول الله ، فلم يردَّ ( صلى الله عليه وآله ) عَلَيَّ .
ومكث طويلاً ، ثم رفع رأسه وقال ( صلى الله عليه وآله ) : يا عدوَّ الله ، إنتكهت حرمتي ، وقتلت عترتي ، ولم ترعَ حقِّي ، وفعلت وفعلت .
فقلتُ : يا رسول الله ، ما ضربتُ بسيفٍ ، ولا طعنتُ برمحٍ ، ولا رميتُ بسهمٍ .
فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ( صدقتَ ، ولكنك كثـَّرت السواد ، أُدنُ مِنِّي ) .
فدنوتُ منه ، فإذا بطشتٍ مملوءٍ دماً .
فقال ( صلى الله عليه وآله ) لي : ( هذا دم ولدي الحسين ) ، فَكَحَّلَنِي من ذلك الدم ، فاحترقت عيناي ، فانتبهت لا أبصر شيئاً .
وقصة اخرى :
رُؤِيَ رجلٌ بلا يدين ولا رجلين ، وهو أعمى يقول : ربِّي نجِّتي من النار .
فقيل له : لم يبقَ عليك عقوبة ، وأنت تسأل النجاة من النار ؟!
قال : إني كنت فيمن قاتل الحسين ( عليه السلام ) في كربلاء ، فلما رأيت عليه سراويل وتكَّة حسنة ، فأردت أن أنتزع التكَّة ، فرفع يده اليمنى ووضعها على التكَّة ، فلم أقدر على رفعها ، فقطعت يمينه ( عليه السلام ) .
ثم أردت أنتزاع التكَّة فرفع شماله ووضعها على التكّة ، فلم أقدر رفعها فقطعت شماله ( عليه السلام ) .
ثم هَمَمْتُ بنزع السراويل ، فسمعت زلزلة فخفت وتركتُه ، فألقى الله عليَّ النوم فنمتُ بين القتلى .
فرأيت كأنَّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) أقبل ، ومعه علي وفاطمة والحسن ( عليهم السلام ) ، فأخذوا رأس الحسين ( عليه السلام ) فقبلته فاطمة ( عليها السلام ) وقالت : ( يابني قتلوك !! قتلهم الله ) .
وكأنَّه ( عليه السلام ) يقول : ( ذَبَحَنِي شمرٌ ، وقطع يدي هذا النائم ) وأشار إليَّ ، فقالت لي فاطمة ( عليها السلام ) : ( قَطعَ الله يديكَ ورجليكَ ، وأعمى بصرك وأدخلك النار ) .
فانتبهت وأنا لا أبصر شيئاً ، ثمَّ سقطت يداي ورجلاي ، فلم يبقَ من دعائها إلا النار .
ألا لعنة الله على الظالمين ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
مـــــــع الـــــــتـــــــحــــــــيـــــــات
رد: ســـــيــــرة الإمــــام الــــحــــســــيــــن { ع }
دفن الإمام الحسين ( عليه السلام ) وباقي شُهَداء الطف
بقيت الجُثث الزاكيات مطرَّحة في ميدان المعركة ، فَهُنا يربض جسد الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، وهناك يمتدُّ جثمان أخيه أبي الفضل العباس ( عليه السلام ) .
وهنا تتحلَّق نجوم من أجساد آل أبي طالب ، وترقد جثمان كواكب الأنصار ، فهم متناثرون يملئُون أرض المعركة ، فكانت بهم سماء ، وكانوا فيها أنجماً .
ومَضى ركب السبايا وغاب في الصحراء ، وبقي خيال الشعراء يرسم بقوافيه لوحة الطف الحمراء ، ويفيض بمشاعر الحزن واللَّوعة ، ويذكي روح الكِفاح والثورة .
ولنستمع هنا إلى ما يقوله أحد الشعراء حول مصرع سيد الشهداء الإمام الحسين ( عليه السلام ) :
جَاءُوا بِرأسِكَ يَا ابنَ بِنْت مُحمَّدٍ مُترَمِّلاً بِدمِائِهِ تَرمِيلا
وَكأنَّما بِكَ يَا ابْنَ بِنتِ مُحمَّدٍ قَتلوا جِهَاراً عَامِدينَ رَسُولا
قَتَلوكَ عَطْشاناً وَلمَّا يَرقَبُوا في قَتْلِكَ التأويلَ والتنْزيلا
وَيُكبِّرونَ بِأنْ قُتلْتَ وإنَّما قَتلوا بِكَ التكبيرَ والتَّهليلا
لنترك الشعر والشعراء ، ونذهب إلى رجال قبيلة بني أسد ، وهي القبيلة التي وقعت معركة الطف بالقرب منها .
فقد خرج رجالها يتفحَّصون القتلى ، ويتتبَّعون أنباء الواقعة بعد رحيل جيش عمر بن سعد ، حيث بقيت جثث الشهداء مطرَّحه في مصارعها ثلاثة أيام ، تَنْتابُها الوحوش ، وتلفحُها حَرارة الشمس المحرقة .
وقد روى الشيخ المفيد حول ذلك وقال : توجَّه رجال بني أسد وكانوا نزولاً بالغاضرية إلى الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه ، فَصلّوا عليهم ، ودفنوا الحسين ( عليه السلام ) حَيثُ قبره الآن ، ودفنوا ابنه علي بن الحسين ( عليه السلام ) عند رجله .
وحفروا للشهَداء من أهل بيته وأصحابه ، الذين صُرعوا حوله ، مما يلي رجلي الحسين ( عليه السلام ) .
فجمعوهم ودفنوهم جميعاً معاً ، ودفنوا العبَّاس بن علي ( عليهما السلام ) في موضعه الذي قُتل فيه على طريق الغاضرية حيث قبره الآن ( الإرشاد : 243 ) .
وهكذا ربض الجسد الشريف للإمام الحسين ( عليه السلام ) على مقربة من نهر الفرات ، في أرض كربلاء ، عَلَماً تهوي إليه الأفئدة ، ومناراً ينير الدرب للثوَّار .
فالتحق الإمام الحسين ( عليه السلام ) بالشهداء والصدِّيقين ، والصالحين والنبيِّين ، وحَسُن أولئكَ رَفيقاً .
مـــــــع الـــــــتـــــــحــــــــيـــــــات
رد: ســـــيــــرة الإمــــام الــــحــــســــيــــن { ع }
مدفن رأس الإمام الحسين ( عليه السلام )
بقي الناس إلى يومنا هذا يتساءلون : أين دُفن رأس الإمام الحسين ( عليه السلام ) ؟
وقد كثرت واختلفت في ذلك أقوال المؤرخين في المكان الذي حظي بشرف دفن الرأس الشريف .
ونذكر تلك الأقوال : الأول : في المدينة المنورة :
ذهب فريق من المؤرخين إلى أن الرأس الشريف للإمام الحسين ( عليه السلام ) دفنه حاكم المدينة في البقيع إلى جانب أمه فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) كما روي في تذكرة الخواص .
فقد ذكر أنه دفن بالمدينة عند قبر أمه فاطمة ( عليها السلام ) فعندما وصل المدينة كان عمرو بن سعيد بن العاص والياً عليها ، فوضعه بين يديه وأخذ بأرنبة أنفه ثم أمر به ، فكفن ودفن عند أمه فاطمة ( عليها السلام ) .
ويضعف هذا ، أولاً : بأنه مبني على إثبات القول بوصول الرأس إلى المدينة ، وعدم انتقاله في الطريق بين الشام والمدينة إلى كربلاء مع زيارة الأهل للقبور كما سيأتي .
ثانياً : إن الاختلاف قائم على محل دفن سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) بين منزلها وما بين قبره ومحرابه ( صلى الله عليه وآله ) في المسجد ، وبين دفنها في البقيع ومن دون تحديد المكان .
الثاني : في سوريا :
ذهب جمهور من المؤرخين إلى أن الرأس الشريف قد دفن في دمشق بعد وصوله إليها من كربلاء ، إلا أنهم اختلفوا في تحديد المكان الذي دفن فيه .
فمنهم من قال أنه دفن في حائط بدمشق ، ومنهم من قال في دار الإمارة ، ومنهم من قال في المقبرة العامة لدفن المسلمين .
وهناك قول بدفنه في داخل باب الفراديس ، وذلك المكان سمي بـ ( مسجد الرأس ) .
وقولاً آخر أنه في جامع دمشق ، وسمي المكان بـ ( رأس الحسين ) ، ويزوره الناس إلى الآن ، كما أن هناك أقوالاً أٌخر .
وإختلاف الأمكنة المتعددة لمحل الدفن دليل الضعف .
الثالث : في مصر :
وذهب بعض المؤرخين إلى أن الرأس الشريف قد حظيت به القاهرة ، وذكر في كيفية نقله إليها قولان :
الأول : وهو ما ذكره الشعراني من أن العقيلة زينب بنت علي ( عليهما السلام ) نقلته إلى مصر ودفنته فيه .
الثاني : وهو ما أفاده المقريزي من أن الرأس نقله الفاطميون من باب الفراديس في دمشق إلى ( عسقلان ) ، ومنها حمل إلى ( القاهرة ) من طريق البحر ، في اليوم العاشر من شهر جمادى الآخرة من سنة ( 548 هـ ) ، وقد قام بذلك سيف المملكة مع القاضي المؤتمن بن مسكين ، أيام المستنصر بالله العبيدي صاحب مصر ، وجرى له استقبال ضخم .
أما القول الأول فهو ضعيف ، ولم يذكره غير الشعراني على أن سفر العقيلة زينب ( عليها السلام ) إلى مصر كان بفترة طويلة بعد عودتها إلى المدينة من سبيها فى الشام ، ولا يعقل أنها احتفظت بالرأس كل تلك المدة لتدفنه بعدئذ في مصر ، ولم تذكر رواية أنها دفنته ومن ثم أخرجته لتنقله معها إلى مصر .
وأما ما نقله المقريزي ، فإنه يتوقف أولاً على إثبات وجود الرأس الشريف في باب الفراديس في المدة الفاصلة بين عام ( 61 هـ – 548 هـ ) ، حتى يصدق أن المنقول هو رأس الحسين ( عليه السلام ) ، وهو غير ثابت حتى وإن ثبت صحة خبر ما قام به الفاطمييون .
الرابع : في فارس :
وقد ذكر ذلك أحمد عطية في دائرة المعارف الحديثة ، ولعل المصدر هو ما ورد من أن أبا مسلم الخراساني لما استولى على دمشق ، نقل الرأس الشريف منها إلى مرو ، فدفن بها في دار الإمارة ثم بني عليه رباطاً .
وهو قول شاذ لم يذكره أحد من المؤرخين المعتبرين ولا دليل عليه ، وهو كالقول بنقل الرأس الشريف إلى مصر متوقف على بقاء الرأس في الشام ، وهو غير ثابت حتى يثبت فيما بعد نقله إلى مكان آخر .
الخامس : في النجف :
حيث أنه نقلت مجموعة من الأخبار عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) على أن الرأس الشريف دفن في الغري ، ولكن التعبير في بعضها بأنه موضع الرأس ، وهذا لا يدل على أنه قد دفن فيه ، مضافاً إلى ملاحظة أسانيد تلك الروايات .
السادس : في كربلاء :
اشتهر هذا القول عند فريق كبير من علماء المسلمين من الفريقين ، فمن أهل السنة ما ذهب اليه الشبراوي ، والقزويني ، وأبو ريحان البيروني ، حيث يقول : في العشرين من صفر رُدَّ الرأس إلى جثته فدفن معها .
وابن الجوزي ، حيث يقول : واختلفوا في الرأس على أقوال ، أشهرها أنه رُدَّ إلى المدينة مع السبايا ، ثم رُدَّ إلى الجسد بكربلاء فدفن معه ، قاله هشام وغيره .
وكما ينقل ابن شهر آشوب في مناقبه من أنه المشهور بين الشيعة ، وينقل رأي السيد المرتضى والشيخ الطوسي .
وقد نص على ذلك علماء الشيعة ومحدثوهم كالمجلسي ، وابن نما ، وذكر السيد ابن طاووس أن عمل الطائفة على ذلك .
وهذا القول هو المشهور والمعروف عندنا الشيعة الإمامية من أن الرأس الشريف قد أعيد إلى كربلاء ودفن مع الجسد الطاهر .
دفن الرؤوس :
أما كيفية نقل الرؤوس الشريفة إلى كربلاء ودفنها مع الأجساد الطاهرة فحسبما هو المعروف من أن الامام زين العابدين ( عليه السلام ) طلبها من يزيد وهو أجابه .
وذلك عندما أراد يزيد أن يطلب مرضاة الإمام ( عليه السلام ) ، بعد أن علم الناس واقع الأمر ، بأن المقتول هو الحسين بن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
وكذلك المسبيات في أنَّهن لَسنَ من الخوارج كما كان يدعي يزيد ، وإنما هن بنات الوحي والرسالة .
فعندها نقموا عليه وكرهوا فعلته ، وصار يزيد يتنصل من ذلك ويضع اللوم على واليه في الكوفة عبيد الله بن زياد في قتله للحسين وأصحابه ، وأنه هو لم يأمرهم بذلك .
وقد خيَّر الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) والعيال بالبقاء في الشام أو الرحيل منها ، وقد أختاروا الرحيل ، فأمر بتجهيز الراحلة مع الدليل ، ومعهم النعمان بن بشير الأنصاري .
فلما وصل الركب إلى مفرق طريقين يؤدي أحدهما إلى العراق والآخر إلى المدينة - وهي منطقة في الحدود بين الشام والأردن والعراق تعرف حتى اليوم باسم ( المفرق ) - سأل الدليل الإمام ( عليه السلام ) إلى أين يتجه بالركب ؟
فسأل الإمام ( عليه السلام ) عمته العقيلة زينب ( عليها السلام ) ، فقالت : قل للدليل يعرج بنا إلى كربلاء لنجدد عهداً بقتلانا وندفن الرؤوس .
فوصل الركب إلى موضع القتل بكربلاء في العشرين من صفر 61 هـ ، أي بعد أربعين يوماً من الواقعة .
وعندها دفن الإمام ( عليه السلام ) الرؤوس مع الأجساد ، ومن ذلك أُثِر عند الشيعة فيما بعد زيارة الحسين ( عليه السلام ) في يوم الأربعين ، وكذلك جلوسهم لقراءة القرآن والترحم على موتاهم بعد مرور أربعين يوماً على وفاتهم .
خاتمة :
تناولنا في الصفحات الماضية بعض الأخبار التي نقلها المؤرخون في مواضع دفن رأس الإمام الحسين ( عليه السلام ) .
وقد شيد في أغلب تلك المواضع مزارات يطوف بها المسلمون ، وهي موضع اعتزاز وفخر وتقدير لكل بلد أو مكان حظي بهذه النسبة .
وعلى أَيَّةِ حال من الأحوال وصحة أَيَّةِ رواية من عدمها لتعيين مكان دفن الرأس الشريف فإن الإمام الحسين ( عليه السلام ) قائم في عواطف الناس وقلوبهم ، وفي أعماق النفوس قبره روحاً وجسداً ورأساً .
مـــــــع الـــــــتـــــــحــــــــيـــــــات
رد: ســـــيــــرة الإمــــام الــــحــــســــيــــن { ع }
كرامات الإمام الحسين ( عليه السلام ) بعد مقتله من مصادر سُنية
وردت كثير من الروايات في مصادر أهل السنة تتحدث عن بعض الظواهر الكونية ، والحوادث ، والفتن ، التي ظهرت عقيب مقتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، أسفاً وحزناً عليه ، ونذكر منها :
أولاً : ما روي من أن السماءَ صارت تَمطُر دماً :
عن أم حكيم قالت : قُتِلَ الحسين وأنا يومئذ جويرية ، فمكثت السماء أياماً مثل العلقة ( رواه الطبراني ورجاله إلى أم حكيم رجال الصحيح ) .
ثانياً : ما روي من كسوف الشمس :
عن أبي قبيل قال : لما قتل الحسين بن علي انكسَفَت الشمس كسفة حتى بدت الكواكب نصف النهار ، حتى ظننَّا أنها هي ، أي : القيامة ( رواه الطبراني وإسناده حسن ) .
ونقل ذلك أيضا السيوطي في تاريخ الخلفاء / 207 ، وأرسله إرسال المسلّمات ، فقال : ولما قتل الحسين مكثت الدنيا سبعة أيام والشمس على الحيطان كالملاحف المعصفرة ، والكواكب يضرب بعضها بعضاً ، وكسفت شمس ذلك اليوم ، واحمرَّت آفاق السماء ستة أشهر بعد قتله .
ثم لا زالت الحمرة ترى فيها بعد ذلك ولم تكن ترى فيها قبله .
ثالثاً : ما ورد في الدم الذي ظهر على الجُدُر :
قال حصين : فلما قتل الحسين لبثوا شهرين أو ثلاثة ، كأنما تلطخ الحوائط بالدماء ساعة تطلع الشمس حتى ترتفع ( رواه الطبري في تاريخه 4 / 296 ) .
رابعاً : ما رُفع حجر إلا وُجِد تحته دم :
عن الزهري قال : قال لي عبد الملك أي واحد أنت إن أعلمتني أي علامة كانت يوم قتل الحسين .
فقلت : لم ترفع حصاة ببيت المقدس إلا وجد تحتها دم عبيط .
فقال لي : إني وإياك في هذا الحديث لقرينان ( رواه الطبراني ورجاله ثقات ) .
وعن الزهري قال : ما رفع بالشام حجر يوم قتل الحسين بن علي إلا عن دم ( رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ) .
وروى ذلك الذهبي في ( سير أعلام النبلاء ) ، والبيهقي في ( دلائل النبوة ) وأبو نعيم الأصفهاني في ( معرفة الصحابة ) .
خامساً : ذبحوا جزوراً فصار كله دماً :
عن دويد الجعفي عن أبيه قال : لما قتل الحسين انتهبت جزور من عسكره ، فلما طبخت إذا هي دم ( رواه الطبراني ورجاله ثقات ، ورواه أبو نعيم الأصفهاني في معرفة الصحابة ) .
سادساً : الفتن والحوادث الغريبة :
قال ابن كثير في تاريخه 8 / 220 : وأما ما روي من الأحاديث والفتن التي أصابت من قتله فأكثرها صحيح ، فإنه قلَّ من نجا من أولئك الذين قتلوه من آفة وعاهة في الدنيا ، فلم يخرج منها حتى أصيب بمرض ، وأكثرهم أصابه الجنون ( رواه الطبراني ورجاله رجال صحيح ) .
وقال في 6 / 259 : وقد روى حَمَّاد بن سلمة ، عن عمار بن أبي عمارة ، عن أم سلمة ، أنها سمعت الجِنَّ تنوح على الحسين بن علي ، وهذا صحيح .
مـــــــع الـــــــتـــــــحــــــــيـــــــات
رد: ســـــيــــرة الإمــــام الــــحــــســــيــــن { ع }
أربعينية الإمام الحسين ( عليه السلام )
يَمرُّ على استشهاد الإمام الحسين ( عليه السلام ) أربعون يوماً ، وقَدْ قضى العقل والدين باحترام عظماء الرجال ، أحياءً وأمواتاً ، وتجديد الذكرى لوفاتهم وشهادتهم ، وإظهار الحُزن عليهم ، لا سِيَّما من بذل نفسه وجاهَد ، حتى قُتِل لمقصدٍ سَامٍ ، وغَايَةٍ نَبيلة ، وقد جرت على ذلك الأمم في كلِّ عصرٍ وزمان .
فحقيق على المسلمين - بل جميع الأمم - أن يقيموا الذكرى في كل عام للإمام الحسين ( عليه السلام ) .
فإنه ( عليه السلام ) قد جَمَع أكرمَ الصفات ، وأحسنَ الأخلاق ، وأعظمَ الأفعال ، وأجلَّ الفضائل والمناقب ، عِلماً وفَضلاً ، وزهادةً وعبادةً ، وشجاعةً ، وسخاءً وسماحةً ، وإباءً للضَّيم ، ومقاوَمة للظُّلم ، وقد جمع إلى كَرمِ الحَسَب شَرَفَ النسَب .
وقد جاهد الإمام الحسين ( عليه السلام ) لنيل أسمَى المقاصد ، وأنْبل الغايات ، وقام بما لم يَقُم بمثله أحد .
فبذلَ ( عليه السلام ) نفسَه ، ومالَه وآلَه ، في سبيل إحياء الدين ، وإظهار فضائح المنافقين ، واختار المنيَّة على الدنيَّة ، وميتة العِزِّ على حياة الذُل ، ومصارع الكرام على اللِّئام .
وأظهر ( عليه السلام ) من عِزَّة النفس والشجاعة ، والصبر والثبات ، ما بَهَر به العقول ، وحيَّر الألباب ، واقتدى به ( عليه السلام ) في ذلك كل مَن جاء بعده ، ومن يمتلك مثل هذه الصفات .
فالحقُّ أنْ تقام له ( عليه السلام ) الذكرى في كلِّ عام ، وتبكي له العيون بَدَلَ الدُموعِ دَماً .
فقد بكى الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) على مصيبة أبيه الإمام الحسين ( عليه السلام ) ثلاثين سنة .
وكان الإمام الصادق ( عليه السلام ) يبكي لتذكُّر المصيبة ، ويستنشد الشعر في رثائه ويبكي .
وكان الإمام الكاظم ( عليه السلام ) إذا دخل شهر محرم لا يُرَى ضاحكاً ، وكانت الكآبة تغلُبُ عليه .
وقال الإمام الرضا ( عليه السلام ) : ( إنَّ يَومَ الحسين أقرحَ به جُفونَنا ، وأسال دموعنا ، وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء ) .
وقد حَثُّوا شيعتهم وأتباعهم على إقامة الذكرى لهذه الفاجعة الأليمة في كلِّ عام ، وهُم ( عليهم السلام ) نِعْم القدوة ، وخير مَنْ اتُّبِع ، وأفضَلُ من اقتُفِيَ أثرُه ، وأُخِذَت منه سُنَّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
فضل يوم الأربعين :
رُويَ عن الإمام العسكري ( عليه السلام ) أنّه قال : ( عَلامَاتُ المؤمن خمسٌ : صلاةُ إِحدى وخمسين ، وزيارةُ الأربعين ، والتخَتُّم في اليمين ، وتعفير الجَبين ، والجهر بـ( بِسْم اللهِ الرحمن الرحيم ) ) بحار الأنوار 101 / 329 .
وقال عَطا : كنت مع جابر بن عبد الله الأنصاري يوم العشرين من صفر ، فلمَّا وصَلنا الغاضرية اغتسل في شريعتها ، ولبس قميصاً كان معه طاهراً ، ثم قال لي : أمَعَكَ من الطيب يا عَطا ؟
قلت : معي سُعد .
فجعل منه على رأسه وسائر جسده ، ثم مشى حافياً حتى وقف عند رأس الحسين ( عليه السلام ) ، وكَبَّر ثلاثاً ، ثم خرَّ مغشياً عليه ، فلما أفاق سَمِعتُه يقول : السلام عليكم يا آلَ الله ( بحار الأنوار 101 / 329 ) .
وكان يزيد قد أمر بِرَدِّ سبايا الحسين ( عليه السلام ) إلى المدينة ، وأرسل معهم النعمان بن بشير الأنصاري في جماعة .
فلمَّا بلغوا العراق ، قالوا للدليل : مُر بنا على طريق كربلاء ، وكان جابر بن عبد الله الأنصاري ، وجماعة من بني هاشم قد وردوا لزيارة قبر الإمام الحسين ( عليه السلام ) .
فبينا هُم كذلك إذ بِسَوادٍ قد طلع عليهم من ناحية الشام .
فقال جابر لعبده : اِنطلق إلى هذا السواد وآتِنَا بخبره ، فإن كانوا من أصحاب عُمَر بن سعد فارجع إلينا ، لعلَّنا نلجأ إلى ملجأ ، وإن كان زين العابدين ( عليه السلام ) فأنت حُرٌّ لوجه الله تعالى .
فمضى العبد ، فما أسرع أن رجع وهو يقول : يا جابر ، قمْ واستقبل حرم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، هذا زين العابدين قد جاء بِعَمَّاته وأخواته .
فقام جابر يَمشي حافي الأقدام ، مكشوف الرأس ، إلى أن دنا من الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ، فقال ( عليه السلام ) : ( أنْتَ جَابِر ؟ ) .
فقال : نعم يا بن رسول الله .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( يَا جَابر هَا هُنا واللهِ قُتلت رجالُنا ، وذُبحِت أطفالُنا ، وسُبيَتْ نساؤنا ، وحُرقَت خِيامُنا ) .
وفي كتاب الملهوف : إنهم توافوا لزيارة قبر الحسين ( عليه السلام ) في وقت واحد ، وتلاقوا بالبكاء والحزن ، وأقاموا المأتم ، واجتمع عليهم أهل ذلك السواد ، وأقاموا على ذلك أياماً ( أعيان الشيعة 1 / 617 ) .
مـــــــع الـــــــتـــــــحــــــــيـــــــات
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى